الأحد، 13 أبريل 2025

سيرة عاشها ثم كتبها

 

منى عباس فضل

 

بعد أيام قليلة سيناقش ميرزا القصاب في جلسة حوارية كتابه الأخير "لا تستكن تحديات هي الحياة "سيرة". سبق للمؤلف اصدار دراسة اقتصادية قيمة في عام 2022 بعنوان "ما بعد النفط تحديات البقاء في دول الخليج العربية"، في الدراسة دق ناقوس الخطر بشأن التحديات الوجودية التي ستواجه المجتمعات الخليجية في عصر ما بعد النفط وتناول الخلفية التاريخية لها ولاقتصاداتها ما قبل النفط وبعده وتأثيرات الطفرة النفطية وما أنتجته من دولة ريعية ونمو ديمغرافي وتفشي للبطالة وتنامي للإنفاق العسكري في ظل التحولات الاقتصادية الإقليمية والعالمية الحرجة.

 

تطرق إلى ما تتميز به هذه المجتمعات في سوق العمل والتعليم والتنمية المستدامة؛ وسلط الضوء بالبيانات الرقمية على الهياكل التنموية والإدارية لها والعجوزات والدين العام الذي تعاني منه؛ وحتى لا تكون هذه البلدان عرضة للانهيار المحتمل بعد النفط، عرض عليها تجارب عالمية ناجحة يمكن الاستفادة منها في تجنب الكارثة العظمي؛ وخلص إلى أهميّة الحاجة الماسة إلى توفر إرادة سياسيّة تجري إصلاحات وتغييرات جذريّة في أمور الحكم والسياسة والاقتصاد عبر وقفة مراجعة.

 

أما في ضوء كتابه الجديد؛ فهو يصطحب القارئ في رحلة يتناول فيها سيرته الذاتية بمصداقيّة وواقعيّة وبما اكتنزته من تجارب عاصر فيها التحولات الاجتماعيّة والاقتصاديّة وهو الرجل العصامي كما يصف نفسه. السيرة تتخللها الأوجاع والذكريات ولدغات الزمن وجروحه؛ ما يثير السؤال دائمًا: مالذي يدفعنا للبوح؟ مالذي نبوح به من خلاصة سنوات مثخنة بالجروح من جهة، ومفعمة بالأوقات الجميلة والممتعة من جهة أخرى، فالحنين يشد أطرافنا حيث تترامي صفحات الحياة وتتشكل من أمامنا الحكايات لتبعث لنا نصًا يسرد فيه المؤلف كيف شق دربه بإرادته وجهوده الذاتية؛ وهو هنا يختزل سيرة جيلاً كاملاً بملامحه التاريخية لسنوات الحلم والطموح ومواجهة التحديات والسنوات العجاف والتجارب الفاشلة والمريرة والنجاحات الممزوجة بالمعاناة كل ذلك ليصنعوا مستقبلاً لهم ولأوطانهم؛ ولأن الأم في خضم هذه التجارب تبقى مدخلاً معنويًا وروحيًا له أثره وتأثيره كتب الأهداء إليها؛

 

"إلى أمي خاتون علوي هاشم الكامل، منها تعلمت الكفاح وتقديس العمل، فارقتني وأنا أرسم خارطة طريقي في الحياة، فكان الحصاد الذي لم تره"؛ وقد اعتبر المؤلف حياته مغامرة لها بداياتها غير الاعتيادية حين يروى بإسهاب عن مرحلة طفولته القاسية، وكفاح ما بعد الجامعة؛ وانخراطه في الدراسات العليا ثم مجالات العمل والعثرات التي واجهها.

 

تعتبر هذه السيرة نوع من أنواع الكتابة التراتيبة المتداخلة التي أجاد المؤلف حبكها بسلسلة فقرات لها بداية ونهاية وثمة خيط رفيع يجمعها يتجسد ما بين السرد المباشر حينًا والمتواري حينًا آخر خلف إشارات ورموز لها دلالاتها، وحضورها في النص ليس عبثي، بل فيه من فطنة بث رسائل من أرجاء الذاكرة الجمعية وما تخلف من تحت الأنقاض؛ لنقرأ له: "حقاً، كان عبد الناصر شخصية تاريخية هائلة فرضت نفسها على مجريات الأحداث في عصرها، وتركت بصماتها على مصر والعالم العربي. لقد كان خطيباً مفوهًا بصوت آسر، وزعيمًا تتجاوز كاريزمته كل الحدود، وكان له تأثير محلي واقليمي ودولي. وتعتبر الستينيات بحق السنوات الحالمة من زعامة عبد الناصر الكاسحة وذروة الدور المصري في المنطقة".

 

يميل نص السرد أحيانًا إلى الاقتضاب؛ لاسيما وقد أفاد المؤلف كثيرًا من تجاربه المهنية كأسلوب في سرد ما يفي المضمون وتفنن في التكثيف لخلاصة تجاربه ومغامراته التي خاضها في مجال العمل والتجارة والمخاطر التي تحملها وإن أطال وأسهب في بعضها؛ اختار ما أرد قوله وعبر عنه بشفافية، وهو الباحث الأكاديمي الملتزم؛ إنه لا يقول كل شيء لكنه من الجرأة أن لا يخفي أي شيء اقتنع بأن يكشف عنه؛ تحدث عن مرارة مذاق اليتم والطفولة والبؤس بجرأة وعن السعادة ومتعة الأسفار بين متاهات ذاكرة منعشة واكتشاف الذات والآخر، وقال ما يستوجب قوله من خلال التعبير عن مواقفه وهو يعلق على مشاهدته لمسرحية "يعيش يعيش" التي عرضت في عام 1970 على مسرح "قصر البيكاديللي" الذي شهد محطات فنية مميزة وهو يصفه بدقة لاسيما وقد شكل مسرحاً للثقافة والفن في بيروت، فيكتب: "تنتهي المسرحية بفكرة لاذعة في أغنية تقول: "الرعيان بوادي والقطان بوادي"، مؤكدة الاختلاف الكبير بين عالم الحاكمين وعالم المحكومين. فالكراسي هي الشغل الشاغل للحكام على اختلاف أنواعهم، وأنها لديهم أهم من البشر"!

 

صور السيرة الذاتية في النص ليست رمادية؛ بل تخللها إشراقات أحسن سردها وقراءتها بتنوعاتها؛ وكما هو حال كل من مروا بتجارب الدراسة الجامعيّة؛ يؤكد أن الفترة الدراسيّة التي قضاها في الجامعة كانت بمثابة نقطة تحول في مجرى حياته، وخلالها شعر بأنه ولد من جديد. "ففي الجامعة تعلمت كيفية التعلم، واكتساب المعرفة، والتفكير النقدي، والإفادة من مناخها الليبرالي النسبي، والتعرف على الناس من مختلف الجنسيات والأعراق. وقد ساعدني ذلك على شق طريقي الجديد في الحياة، وتحقيق النجاح من خلال العمل الدؤوب وما تملكني من طموح.. ص92"، وهو هنا يشير إلى الجامعة الأميركيّة في بيروت في تلك الأوقات وبما يتنافى وواقع جامعاتنا اليوم، ويضيف في سردية الحرم الجامعي بلا أسوار: بأن "أول ما لفت نظري هو حرم جامعة أوريغون في يوجين ليس له أسوار، إنه مفتوح على المدينة ومترابط معها من مختلف الجهات. وبالتالي، فإنه لا توجد بوابات للدخول أو الخروج. ولم أشاهد بالحرم الجامعي رجال أمن أو حراس على الإطلاق. وهذا ما يميز عادة الحرم الجامعي بالولايات المتحدة".

 

اغتنى المؤلف كثيرًا بما قرأه وتعلمه، كتب في الفصل التاسع ص 212..."من جانبها قررت منظمة اليونسكو الاحتفال بالكتاب ومؤلفي الكتب، وذلك بإنشاء "اليوم العالمي للكتاب" في عام 1995، بهدف تشجيع الناس على القراءة واكتشاف متعة القراءة، وكذلك تسليط الضوء على مفهوم الملكيّة الفكريّة وحق المؤلف في نسب مؤلفاته الخاصة إليه. وتحتفل باليوم العالمي للكتاب العديد من بلدان العالم خلال شهر أبريل من السنة.. إلخ.  

 

التزم بتسجيل ما مر به من مشكلات وصعوبات وطموحات ومواقف تعددت ما بين قصص النجاح والتحديات العامرة بالدروس والتي تجاوز بعضها صعودًا وهبوطًا حتى يجد لنفسه موطئ قدم في عالم إدارة الأعمال والمشاريع والتجارة وحتى مع توحش رأس المال سرد تفاصيل ومواقف مهمة عبر فيها عن آراء وتجارب ملهمة منذ انطلاقة رحلته الحياتية؛ وفي سياق التحرر من ثقل المطمور في بئر الأسرار، تحدث عن تجربته منذ البدايات في الحصول على درجة الدكتوراه والتحديات والمعوقات التي حالت دون ذلك، واقترن سرده بتجربة التدريس في جامعة البحرين، وخلص إلى أن هناك هوسًا وشغفًا حتى لغير أهل العلم في الحصول على لقب الدكتوراه الساحر وظاهرة الشهادات المزيفة التي انتشرت كظاهرة في مجتمعاتنا الخليجية والعربية بل وعالميًا من منطلق تعزيز فرص الكسب والحصول على الامتيازات غير المستحقة أو حب التفاخر وتضخيم الذات والإحساس بالزهو لحامل اللقب المزيف.

 

ختامًا، إن مطالعة السيرة الذاتية الريادية للقصاب تعدُ خطوة مهمّة يتجاوز فيها المرء حدود التسلي بتتبع الحكايات الخاصة، إلى التعلَم واقتفاء الأثر لهذه السيرة وتجاربها لما لها من المصداقيّة والواقعيّة وبما انتهى إليه المؤلف في تخطي الصعوبات وتحقيق النجاحات.

 

 

المنامة – 13 أبريل 2025


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق