منى عباس
فضل
بعد الاطلاع على عدة مقالات ومقابلات وتنظيرات في
أزمنة متباعدة يجمعها في أحد عناصرها فكرة متقاربة رغم اختلاف المقاصد والنيات
ومستويات التفكير وجدّية المقاربة، وجدنا أنها تتناول مسؤولية "مكونات العمل
السياسي" ودورها في مخرجات الراهن من حالة سياسية، والتي نفهم مما تضمنته من
آراء نكنّ لها كل الاحترام والتقدير دون تشكيك، فإنها تَشِي بمسؤولية طرف واحد
معنيّ بالأزمة دون الآخر الذي هو "السلطة/الحكم".
أغلب الآراء السابقة تستطرد في حديثها، بلغة مباشرة
أو مستترة، إلى "الجمعيات السياسية" والشخصيات النضالية الوطنية -أي
المعارضة السياسية- بمكوناتها وشخصياتها، وذلك انطلاقاً من منهجها؛ كونها تعفي
نفسها من مسؤولية ما آل إليه وضع البلاد والعباد وإلى ما أفرزه الواقع المتخثّر
المثخن بالأوجاع والأسى والحسرة والمشكلات.
هذه الآراء تشير إلى "الخطيئة الكبرى"
التي ارتكبتها المعارضة السياسية سواء بتجرئها وحراكها في الشارع، أو من خلال
أنشطتها التي استندت إلى رؤية سياسية حالمة غير واقعية أو طائفية حسب اعتقادهم،
"بالمناسبة البعض وبثقة متنامية في تنظيراته يخلص إلى أن الكيانات أو قوى
المعارضة ليس لديها رؤية ولا برنامج ولم تحقق تقدماً ما ولم تعطِ حلولاً وووو..
كلام كثير وكبير وخطير..." تتحدث هذه الآراء وكأن التنظيمات/الكيانات في
تشكلها الهيكلي وحالة الكساح التي تعاني منه بسبب القيود، تمثل وضعاً شبيهاً بوضع
"دولة" قائمة لديها قدرات بشرية ومالية ضخمة وآلية هيكلية تمكّنها من
تنفيذ رؤية استيراتيجية اقتصادية سياسية واجتماعية على غرار الدول التي تدّعى أنها
دخلت عصر الحداثة والعصرنة بهكذا استيراتيجيات على الورق.
نقد قاس
وجهات النظر هذه تحاسب الكيانات وتكاتبها في كل
صغيرة وكبيرة، شاردة وواردة وبعيون تضعها تحت المجهر وبنقد قاسٍ، بل وأحيانا تحت
خط المزايدة عند بعضِ ممّن لم يمتلك يوما ما تجربة سياسية وخبرة ميدانية حقيقية،
بل وربما يفتقد حتى إلى أبسط المعارف والمهارات والمبادئ التي تؤهله لقيادة حملة
تحاملية نقدية لاذعة الخطاب بهذا الشكل وذاك، نعم تحت خط المزايدة عند بعضهم- حتى
لا نقول عند كل تلك الآراء- فهناك بلاشك استثناءات، بيد إنها في نهاية المطاف تجمع
على أن الخطايا ارتكبت من طرف واحد فقط، وهذا أمر عجيب بحق، فهو إما دلالة خوف
ورجف في التعبير عن حقيقة الواقع بسبب القيود ونقصان أوكسجين الحرية، أو يحمل في
طياته نفاقاً أو تجاوزاً لمعطيات الواقع الفعلية أو لأي أسباب أخرى ليس مجال الخوض
فيها الآن.
هنا يحق السؤال عن ماهية تلك الخطايا مقارنة
بخطايا أخرى؟ فهل هي تعني المطالبة بالدولة المدنية وحقوق المواطنة الفعلية
وممارسة الديمقراطية الحقيقية وليست "القشرية" من القشور والتسطيح؟ هل
الخطايا في المطالبة بحرية التعبير عن الرأي وضمان قبول الاختلاف والرأي الآخر؟ هل
خطايا الكيانات السياسية تكمن في مطالبتها بالشراكة العملية وليست الشكلانية
"الكلامية" في اتخاذ القرار تبعاً للمتعارف عليه في المعاهدات الدولية؟
هل تكمن في كشف مكامن الفساد وهدر المال العام والخلل في إدارة الأزمة السياسية
التي طال أمدها؟....إلخ.. الأسئلة التي تبدأ ولا تنتهي حين متابعة خطابات النقد
المثيرة للجدل في توقيتها وغايتها.
ما معيار الاعتدال؟
بعض مما قيل، يجب التفكير خارج
"الصندوق"، يجب أيضاً تحمّل المسؤولية التاريخية، نعم اليجب هنا ملزمة
ومسؤولية لا يتحمل وزرها طرف دون الآخر، الذي في حقيقة أمره قد تم تشميعه
"بقفل مؤسساته السياسية، وتوقيف صحفه وملاحقته.. "، الآخر هنا لا يتحمل
وحده مسؤولية إيجاد الحلول وهو المستحضر فقط في خطابات الجلد والنقد القاسي
وأحياناً التخوين وشرشحته ووضعه كشماعة لمناقشة ما آلت إليه الأوضاع؟! بالطبع قيل
ذلك استناداً إلى تنظيرات ميّزت نفسها بصفة "الاعتدال" في
الممارسة السياسية التي تعني "شراكة". بالمناسبة
مصطلح الاعتدال هنا يبدو حديثاً، وربما دخل لأول مرة في قاموس العمل
السياسي المحلي، وهذا بحد ذاته إنجاز، هنا يفرض السؤال نفسه عن المقصود
بمفهوم "الشراكة"؟ هل هي حسب المعايير المتعارف عليها دولياً؟ أم
لها تخريجات محلية شكلا ومضموناً بما تعنيه العبارة من ارتهان للأمر الواقع واستزلام
بالتخلي عن أبسط مبادئ حقوق الإنسان وتقييد حرية التعبير للرأي الآخر؟
عودة ثانية لفكرة ضرورة التفكير
خارج "الصندوق" ومقترح "الكتلة الوطنية"، هل
الفكرة موجهة ومقترحة على الأطراف المتّهمة أصلاً بارتكاب الخطيئة في حراكها
النضالي والشعبي؟ المثير عند تدوير الفكرة، إن قيل أنها تعني "عدم تجريد
الآخرين من وطنيتهم"، نعم هذا سليم، لكن ماذا عمّن جُرّدت عنهم هويتهم
"جنسيتهم" لأسباب سياسية وربما في مضمونها أيضاً "طائفية"؟ ما
الحكم في قضايا تقلق عشرات الأسر التى لا ترقى لثقافة حقوق الإنسان، فهل الحديث في
هذه الأمور جزء من الأخطاء؟. يفترض أن تلتف هذه الآراء حول هذه القضايا في سياق
نقدها للمعارضة أقلها لجهة إنسانية لا سياسية، وحتى لا ترتكب "خطيئة"
القفز على الواقع المحزن المثير للضجر.
مخلفات الأزمة
باختصار مهما تفتّقت العقول عن مقترحات ومبادرات
غاية بعضها شبه معروف للشارع "ربما لهدف انتخابي" وهذا حق للجميع
مهما أفرزت تلك الحوارات من نقد جارح "للحركة النضالية الشعبية
الوطنية"، ومهما تجنّبت أو تغافلت بشكل فاقع مناقشة علاقة ومسؤولية من يمتلك
الإرادة السياسية للخروج بالوطن من عنق الزجاجة، وطالما بقيت هذه المناقشات بعيدة
عن عمق الأزمة وأبرز مظاهرها معاناة المتضررين إنسانياً، ستبقى من أسف مناقشات
صوتية فاقدة للموضوعية والجدّية ولا تؤدي إلى حلول ذات معنى؛ ذلك لأن للأزمة
السياسية مخلّفات تتعلّق بأُسَر فقدت أبناءها في القبور وفي ظروف قاسية لا
إنسانية، أو قابعين وراء القضبان أو في المنافي أو ممّن فقدوا الهوية، مضاف إليهم
مشكلات وضغوطات اقتصادية يتصدرها ملف التجنيس والعمالة الأجنبية التي التهمت فرص
المواطن في العمل والتضخّم وغلاء المعيشة وفقر بنمط دولة الرفاه والرعية التي بدأت
تحصد الضرائب من جيوب المواطن لتسديد العجوزات المالية، ناهيك عن تدهور مستوى
المعيشة بسبب انخفاض أسعار النفط والفساد وعليهم تدهور مستوى التعليم والخدمات
الصحية التي تتّجه إلى شبح الخصصة، وأمور لا تعد ولا تحصى.
خلاصة القول، دروس التاريخ تشهد أن إرادة
الشعوب لا تُلغى بجرّة قلم وكرامتهم محفوظة مهما بلغ حال الظلم وانتهاك الحقوق أو
تجاهلها بالتهميش والتشريد، إصلاح الأحوال التعيسة لا يكون بالترقيع أو تجاوز
الواقع المر بأميال، حقيقة المعاناة ضخمة بضخامة وجدّية نضالات شعوب العالم التي
طالبت في ثوراتها بالتغيير لأجل غدٍ أفضل لأجيالها.
لذا تستوجب المسؤولية وبضمير مواجهة الواقع عبر
النظر "للكأس المرّ المَليان" وليس لنصفه كما يقال، يجب وضع النقاط على
الحروف بهدوء وموضوعية دون التخلي عن المبادئ والقيم الإنسانية والحقوقية التي
أساسها حب الوطن وترابه، فضلاً عن دراسة الواقع السياسي بموضوعية استناداً إلى
اختمارات البيئة المحلية وتفاعلها مع متغيرات الوضع السياسي الاقليمي والعالمي عند
التنظير للمشهد السياسي، أظن إن نظرة كهذه تتطلّب علمية التشخصيص والتحليل بتكامل
وتوازن عند بسط أدوات التفكيك والتحليل ووضع الحلول، وخلاف ذلك فإنها تُحكِّم
الأمور بمزاجية وانتقائية في إطار الدوران حول حلقة مفرغة.
منى عباس فضل
المنامة-14 سبتمبر 2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق