الأحد، 17 أكتوبر 2021

ارفع رأسك وانهض

 

منى عباس فضل

 

سيرة "ارفع رأسك" للمحامي الدكتور حسن رضي التي تناغم فيها القلم الرشيق والعميق في تعبيره لغويا وأدبياً للكاتبة باسمة القصاب، كشفت عن إرهاصات تجربة حياتية نابضة بالحياة وملهمة تجسد فيها تاريخ الإنسان البحريني بمعاناته ونضاله وتشكل تكوينه بكل الصور والمعاني الجميلة والمنعطفات العابرة والصعبة.

 

عبرت السيرة في مساراتها المتشابكة عن ضمير حي يحاكي ما وراء الصور والعبارات والمواقف والمنعطفات بعنصر من التشويق والإثارة، وعن تصالح مع الذات وتعاطٍ موضوعي مع الواقع ومكوناته، وهي قائمة على مرتكزات من المحبة والسلام والعدالة والكرامة والقبول بالآخر والأهم بالاختلاف.

 

قرأت السيرة بتأمل وتمعن لتجربة تعليمية بسرد روائي غني وممتع؛ وقد استطاعت الكاتبة باسمة العبور بها للقارئ من خلال منهجية سردية مكثفة استخلصت أجمل وأغنى ما في تجارب المحامي حسن رضي التي وثق فيها مواقف ومعاناة مراحل صعبة من تاريخ الوطن والحراك الشعبي وتجربته الخاصة في هذا الإطار العام بمراحله ومناخاته وما ضج به من صراعات وتصادمات بحلوها ومرها في السجن وخارجه، مما جعلها دون ريب جزءًا أصيلًا من ذاكراتنا الوطنية والجمعية.

 

في السيرة ثمة تفاصيل غنية ملهمة للتحفيز والتغيير يبثها إلى جيل الشباب والشابات، من بوابة التعليم والعمل الدؤوب وصقل المهارات، وعلى الأخص إلى من اتخذ مهنة المحاماة والعمل الحقوقي دربًا له، تضمنت رسائل متعددة ومواقف متنوعة ذات دلالات عميقة في التشديد على ضرورة الالتزام بأصول المهنة وبالقسم لها وبما تعهد به المحامي تجاه مصالح موكله ليكون موضع ثقة وأمانة حتى وإن اختلف معه في الفكر أو التوجه.

 

في هوامش الكتاب تعريفات مختصرة عن الشخصيات التي مر بها وتركت تأثيرها في مسيرته الحياتيه والمهنية، حرص على تدوين أهم ما يميزها، إضافة إلى تدوين بعضها تخليداً لذكرى مناضلين استشهدوا أو قدموا التضحيات ولايزالوا، كما لم تغفل معه الكاتبة في تقديم شروحات للعديد من المواقف أو الأحداث بصدقية وموضوعية عالية تعكس التزاماً علمياً بعملية التوثيق وبما يتصف به الكاتب والباحث الموضوعي.

 

تتميز سردية السيرة بتسلسل زمني، وهي تركز في آن على أبرز وأهم المنعطفات والمواقف بتنوعها واختلافاتها وبما عكسته من خيبات أو أفراح فتحت المغاليق عبر ما مر به كاتب السيرة سواءٌ على صعيد حياته الخاصة أو العامة، من خلال حميمية علاقاته الأسرية وفي القرية والنادي والأصدقاء وأثناء الدراسة وشعور الاغتراب والسعادة في العبور من أجواء القرية إلى المدينة ومنه إلى العالم الأوسع بالدراسة والعمل والسفر والانفتاح على الثقافات المختلفة والتعرف على الاتجاهات السياسية والحزبية المتعددة بتجاربها وإيدولوجياتها وقيمها التي نهل منها معرفة بالقراءة والاختلاط، وأطلق عنان العقل للانفتاح وخوض المغامرات التي وقف عند بعضها على حافة السقوط  لكنه لم يسقط بل حقق حلم النجاحات في امتحانات الحياة ومواقفها.

 

أفاض بالبوح بصدق مع النفس وبجرأة متميزة، أقبل على التحديات بجسارة ولم يسقط بل نهض في كل مرة كي يعيد تدوير زوايا حياته ودفة مسيرته المهنية والنضالية ويحقق ما يصبو إليه وبما شكل ثروة وقيمة مضافة لم تقتصر عليه؛ إنما للوطن وأبنائه.

 

في رسالة لها أبعادها وبما يتشابه فيه مع الكثيرين من جيله يكتب: "تفأجات باقتراب نهاية العام الدراسي الذي مر سريعاً دون أن أشعر به، قضيتها بين (النشاط السياسي) أو بالأحرى (الثرثرة السياسية)، وبين أجواء المرح.."، أما في تجارب الصراعات السياسية وأجوائها يشير: "في الحقيقة، لم أكن متحمّسًا للخروج. شعرت أني انتُزعت من وسط أحبّة قضيت مرّ السجن في حلو اجتماعاتهم، قيادات وعناصر من جبهة التحرير والجبهة الشعبية وآخرين مستقلين، يتغايرون في التوجهات والرؤى والأفكار، لكن في المعتقل تذوب الفوراق الحزبية والإيديولوجية كما يذوب الملح في الماء. كُلنا ملحٌ في ماء وطن نحلم به".

 

يجسد رضي من خلال سيرته فعلا لا قولا، أن العمل قيمة عالية يتحقق منها رضا الذات وشعورها بالامتنان والسعادة يقول: "العمل في هذه المكاتب جاد وصارم ومتواصل لساعات طويلة دون كلل أو كسل. تعلمت منهم الصبر والمثابرة في العمل والإنجاز المتواصل، عشقت العمل ودخل حياتي بقوّة وأخذ وقتي وجهدي وحماسي، ليس هناك وقت محدد للعمل عندي ولا ينتهي بانتهاء ساعات الدوام، انتقل معي هذا النموذج إلى مكتبي وإلى المشتغلين معي بدرجة كبيرة، لقد شُغفت بالعمل الذي صار يأخذ معظم يومي إلى الحدّ الذي جعل زوجتي تقول ذات مرة: -لا ينقصك إلا أن تشتري سريّرا تضعه جانب طاولتك في المكتب وتقضي الليل مع ملفاتك".

 

ومن خلاصة تجاربه الحياتية بمغزاها ومعانيها الرفيعة "لعلّ أجمل ما يفعله النضج بنا، هو التبدّل الذي يُحدثه في علاقاتنا بالآخرين ونظرتنا إلى المختلفين معنا، تحويل التشدّد والجفاء إلى التفهم والقبول وتعزيز المشترك، وربما الصداقة. الاحتراب نوع من المراهقة الفكرية، والقطيعة والجفاء نقص في الوعي".

 

المنامة – 17 أكتوبر 2021

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق