الثلاثاء، 25 فبراير 2020

بعد أن فَعَل التآكل فعله

منى عباس فضل
في روايته "حنين إلى نكهة الصبا" يوظف الطاهر بنجلّون تقنيات الكتابة السردية في نصه ملامساً في العمق هاجساً حساساً قلما تم التدوال في تفاصيله المؤلمة والصادمة عند النظر إلى مرض السرطان وكيفية التعامل معه ومع عمليات استئصال الأعضاء والخضوع للعلاج الإشعاعي والجراحات التجميلية، الأهم مع اجراءات الوقاية ومراحل العلاج الدقيقة المملة والمخيفة في عواقبها وتداعياتها.

ثمة هواجس يعيد بنجلّون تشكيل صورها في بنية النص؛ فيعمل فيها مشرطه الحاد كاشفاً عن تجلياتها ودلالتها، كهواجس الكرامة والكبرياء والخوف والشيخوخة والعجز وفقدان القدرة الجنسية وحالة اللاتزان النفسي التي يمر بها المرء بعد الخمسين لاسيما مع ظروف الأمراض والعجز؛ فكلمة "عاجز" كما يقول عنيفة وقوية ودراماتيكية..لا يعنى الهرم التقدم في العمر فقط، لكنه يتضمن على الأخص أنّ زمن الهزيمة قد حلّ..أجل يومئذِ، هرمتُ".

تتحرك أبعاد الرواية بمرتكزاتها بين زمنين متنازعين؛ زمن الأستاذ الجامعي في الرياضيات الذي توفيت زوجته كاثرين بعد إصابتها بسرطان الثدي، الزمن الذي كان فيه شاباً يتمتع بالصحة في عالمه الصاخب بالنساء والمغامرات، إلى زمن الترهل وإصابته بسرطان البروستات حيث يفقد جسده قدرة الشهوة ويحل مكانها الألم النفسي الذي يشعر فيه بفقدان معنى الحياة والدهشة. بنجلّون يبرع في تصوير هذه الفترة بأسوأ الأوقات وأصعبها، لم لا والإنسان في مواجهة تحديات نفسية عميقة اختبرها المؤلف في الرواية من خلال تجربة صديقه المريرة حين استئصلت غدة بروستاته، يسرد كناقل ما شهده صديقه وما سمعه منه عن حجم قلقه ومعاناته وعذاباته عبر مراحل العلاج التي خضع لها، وكيف أصبحت حياته أشبه بالحطام بعد انتزاع قدرته الحسية في الاستمتاع، يلج في أعماق صديقه معبراً عن نظرته الفاقعة تجاه ممارسة الجنس وكيف أصبح فاقداً للقدرة والرغبة الجنسية ولدرجة التفكير بالانتحار والإصابة بالإكتئاب "تغير جسدي فجأة وتبدلت وظيفته وإيقاعه وتنفسه".  


بين ثنايا الصعود والهبوط في تسلسل أحداث النص ومنعطفاته تتشكل عند القارئ مشاعر متنافرة وتخيلات تجاه علاقة الإنسان بذاته ومع الآخرين، وكيف يجد صورته وهو غارقاً في لجة المرض الذي يحاول "الاستاذ" جاهداً التحرر منه، كما تتمازج فيها الإستثارة بين واقع الحال ومأساويته؛ فنجد بنجلّون يركز فيها على مشاهد جنسية مثيرة تحفز على التساءل عن كيفية التعاطي مع الجنس في مرحلة الشيخوخة والمرض حيث يتشابك فيها الشعور باقتراب النهاية مع الموت والعار ويكون المرء في مواجهة نظريات متضاربة، وأفكار مثالية حول التلذذ بمعانى الحب وصوره خارج العلاقة الجسدية، فتدور هواجسه بشأن حضور الجسد واستحالة قابليته للتجاوز على الرغم من ردود أفعال الإنسان حين يتحول جسده إلى عبءٍ يخونه على كل المستويات؟ ويعبر عن الشيخوخة "ليست الشيخوخة مسألة عمر فقط، إنها أيضاً مشكلة صورة، وعلاقة بين الذات وما يعكسه الآخرون عنّا من خلال نظراتهم. قد يكون المرء بلا بروستات ويبقى شاباً ظاهرياً. نحن الزمن، ولا حيلة لنا في ذلك. التجاعيد هي التجاعيد ويجب عدم إزالتها عند جراح التجميل؛ الأجدر بنا التباهي بها أكثر..لم أصل إلى درجة التباهي والأصحّ، لم تكن تلك مشكلتي البتة.".

عند الاستغراق في قراءة النص قد يشعر القارئ بشئ من الإطالة والاستطراد الممل في السرد والوصف المتكرر، إلا إنه يمكن تلمس العذر لبنجلّون لجهة حرصه على بث رسالة محفزة على أهمية الإلتفاف لما يحيط بنا في البيئة من مشكلات وأمراض خطيرة بل والتشديد على ضرورة الوقاية منها بإجراء الفحوصات الطبية الدورية بالبروستات للرجال وبالثدي للنساء.


في رحلة علاج "الاستاذ الجامعي" يستذكر مسار حياته وذكرياته المليئة بالمغامرات مع النساء، واضعاً إياها في مقابل تفاصيل حياته الجنسية بعد عملية استئصال غدة البروستات، حيث ينهشه القلق فيلجأ في لحظة ضعف وفقدان للثقة بما يؤمن به من ثقافة وقيم وهو المتخصص في علم الرياضيات إلى الشعوذة التي أصبحت موضة العصر، كما يستحضر صور الخصي في عالم الحريم ويتذكر من أحبهن من النساء ووصل معهن لقمم اللذة والنشوة حتى قبيل إجراء عمليته بفترة وجيزة، الأمر الذي ضاعف من شعوره بالموت والأسى والعار والخسارة وكأن الحياة توقفت، فيسرد حالته مع الكوابيس والأرق وأعراض البروستات واستئصالها فيتعالى وقع التوتر في النص لاسيما عند مصارحة صديقه الطبيب له بضرورة الخضوع مجدداً للعلاج الإشعاعي.

الخلاصة وبعد سبعة وثلاثون جلسة علاج إشعاعي ومعاناة وألم وحزن وكآبة ولقاء مع مرضى بحالة أسوأ من حالته، ومنهم صديقه المريض بالسرطان الذي يكافح بوقار وشجاعة، يقرر التعامل مع المرض بواقعية والتأقلم مع طبيعة الحياة أيا كان شكلها إذ لا جدوى من الإنفعال والنرفزة، مفكراً بما سمعه ذات يوم من زوجته كاترين: "حين تلامس القاع تماماً عليك بركلة قوية من كعب قدمك وستنجو"، وعليه يبدأ مغادرة دوامة المرض بالتدريج والتحرر منها، فهناك إمكانية لحياة جديدة رغم الخسارات والإنكسارات، إنها الحياة التي لا تقبل الإختزال في بعدٍ واحد ودائما هناك ما يبرر استمرارها. هذا مفتاح الأمل الذي يتركه أمامنا نص بنجلّون لمواجهة تحديات الشيخوخة والمرض.

منى عباس فضل
المنامة – 25 فبراير 2020



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق