الثلاثاء، 30 ديسمبر 2025

"مبادرات" أم جبايات من جيوب الفقراء

منى عباس فضل

كتب إريك هوبسباوم في مجلة "القزم الأسود" مرة "أنه عندما يُظهر أحدهم أن الناس ليسو بلا قوة، فقد يشرعون في التحرك من جديد".

بين صخب مهرجانات الأنوار والأكل وعروض ليالي المحرق وهوى المنامة؛ بين ضوضاء اجتماعات السلطتين التنفيذية والتشريعية وزوبعة نتائجهما؛ تحتل سرديات السياسة وهموم الناس صدارة المشهد العام؛ لم لا وقد باشروا بتحميل المواطن أعباء "تعديل الوضع المالي" وارتفاع الدين العام؛ وتخفيًا لحدة وقع القرارات غير العادلة على السمع أطلقوا عليها "مبادرات"، فهل هي حقًا مبادرات أم جبايات تُغرف من جيوب العامة وتثقل كواهلهم بكلفة الأزمة الاقتصادية؟ الغريب ما ورد في تصريح رسمي بأن "المبادرات" ليست لتقوية الوضع المالي بحد ذاته، بل لتحقيق مزيد من الازدهار للمواطنين؟! "كيف؟! الله العالم". وفي مزايدة إنشائية أخرى من رئيس غرفة تجارة وصناعة البحرين أيد فيها القرارات لأنها باعتقاده تحقق الصالح العام للوطن والمواطنين وستسهم في زياد كفاءة الإنفاق الحكومي وتنويع مصادر الدخل، وتعزيز الشفافية؟! "كيف؟! لا ندري".  

في الترويج الإعلامي المكثف "للمبادرات"؛ قيل بأنها ستعمل على خفض المصروفات الإدارية بنسبة "20%" لكافة الجهات الحكومية؛ مع الحفاظ على جودة الخدمات المقدمة للمواطنين، وزيادة مساهمة الشركات الحكومية في الميزانية العامة للدولة؛ لكن هذا يفتح باب أسئلة متشعبة ومعقدة بحاجة إلى برلمان يمتلك ناصية المساءلة والمحاسبة ووضع النقاط على الحروف في التحقق من أي عبارات إنشائية، خصوصًا وإن شكاوى الناس تمددت وتعمقت حول هبوط مستوى التعليم الرسمي وارتفاع رسوم التعليم الخاص والعالي وتدني الخدمات الصحية حيث مواعيد معاينة المرضى أو الفحوص بأنواعها  تمتد إلى سنة أو أكثر والكثير الكثير.  

من "المبادرات" التي سيعملون على تنفيذها في 2027؛ إحالة مشروع قانون إلى السلطة التشريعية بفرض إيرادات بنسبة "10%" على أرباح "الشركات المحلية" التي تتجاوز إيراداتها مليون دينار، أو يتجاوز صافي أرباحها السنوية "200 ألف دينار"، وذلك على الأرباح التي تفوق "200 ألف دينار" بما يعزز تنويع مصادر الدخل، وتحسين استغلال الأراضي الاستثمارية غير المطورة التي تتوفر فيها كافة خدمات البنية التحتية من خلال رسم شهري بواقع "100 فلس" لكل متر مربع بهدف تطبيقها في 2027؛ السؤال: لماذا تستثنى "الشركات الأجنبية" من فرض هذه الضريبة التي طالما طالب بها الاقتصاديون باعتبارها مصدر دخل لا يستهان به للميزانية العامة.

أما في 2026 فسيستحدثون رسومًا على خدمات الصرف الصحي مع استثناء المسكن الأول للمواطن، بواقع "20%" من قيمة استهلاك المياه؛ إضافة إلى مراجعة رسوم العمل على الأجانب دعمًا لأولوية المواطن في التوظيف، وتصحيح سعر الغاز الطبيعي على الشركات والمصانع بما يعكس التكلفة الفعلية للاستهلاك وتطوير آليّة لتحديد أسعار الوقود، وإحالة مشروع قانون إلى السلطة التشريعيّة بزيادة الإيرادات الانتقائيّة على المشروبات الغازية بناء على التوافقات مع السلطة التشريعيّة، وكما جاء في منشوراتهم عدم تغيير تعرفة الشريحة الأولى والثانية للكهرباء والماء في المسكن الأول مع مراعاة الأسر المركبة وإرجاء تطوير آليّات دعم الكهرباء والماء للمواطنين للمزيد من الدراسة، وتعديل تعرفة استهلاك الكهرباء والماء للفئات الأخرى، وتسهيل الإجراءات الحكومية الداعمة للاستثمار وزيادة فاعليتها لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية وتعزيز دور القطاع الخاص.

بين هذا وذاك التهبت وسائل التواصل الاجتماعي بالشكوى والتذمر تارة والتندر تارة أخرى على ما وصل إليه الحال؛ ولأن حرية التعبير المكفولة دستوريًا نص على ورق ومن خوف الناس بالتعبير عن شكواهم ونقد الحكومة، فليس أمامهم سوى تحميل كامل مسؤوليّة هذه الحالة التعيسة لنواب البرلمان والشورى وكأن بيدهم مفتاح العريش. هناك من غضب وطالب بقراءة الفاتحة على مجلس النواب واستقالة أعضائه على الرغم من اعتراف الجميع بأن النواب ليس في يدهم شيء ولا يتمتعون بصلاحيات وإن جوهر المشكلة يكمن في قصور صلاحيات المجلس الذي وصفوه بأنه "عقيم ومجرد ديكور" وإن أداءه ضعيف ورغم كل ذلك أيضًا يطل رئيس مجلس النواب على الناس مصرحًا "بأنه يدعم ما تم الاتفاق عليه من "مبادرات لتمويل الدعم المستحق لمحدودي الدخل والطبقة الوسطى، ويقدم التشكرات لعدم تغيير تعرفة الشريحة الأولى والثانية للكهرباء للمواطن في المسكن الأول، وإرجاء تطوير آليّة الدعم للمزيد من الدراسة.. إلخ".. عجيب؟!  

وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدُر، كان الأجدى في هذا الواقع الرجراج أن يكون المناضل والقائد الوطني المحلل الاقتصادي إبراهيم شريف حاضرًا بيننا، ليرتفع صوته الجريء حاملاً هموم الناس ومعاناتهم، وهو الجاد الذي لا يراوغ بتقديم حلول ترقيعيه ولا يعبث مع الأرقام، فقد توقع أن يكون الأثرياء أكبر المستفيدين من منظومة دعم الكهرباء والماء والوقود، وهو الذي قارن دعم المواطن الثري الذي يستهلك أضعاف ما يستهلكه المواطن محدود الدخل وتوقع ارتفاع فاتورته إلي (121 د.ب)، لكنه من عجب يحصل على دعم مضاعف رغم إنه ليس بحاجة للدعم كما قال.

في السياق ذكر الشريف بأنه في غياب الدعم الحكومي الحالي؛ فان نصف المواطنين سيتحولون إلى فقراء وبعضهم إلى معدمين، وأكد أن منظومة الدعم القائمة ضرورية بسبب البطالة وركود الأجور جراء سياسة الأبواب المفتوحة للعمالة الأجنبية وحصة رأس المال في الأرباح على حساب العاملين واحتكار الأراضي والفساد والضرائب غير العادلة؛ ولطالما كان إبراهيم فصيحًا واضحًا في التعبير عن أسباب وصولنا إلى العجز الكبير في الميزانية العامة حيث أرجعه إلى "التجنيس السياسي" والهدر في النفقات، وبمسؤولية القائد والاقتصادي اقترح حلولاً بديلة؛ تتضمن فرض ضرائب على الدخل والثروة ورفع رسوم استقدام العمالة وخفض النفقات خارج الموازنة والمصروفات غير الضرورية وبيع أراضي الدولة بدل استخدامها للهبات، والتي لم تتضمنها "مبادراتهم" كما لاحظنا.

من جهة متصلة، حسنًا فعل المنبر التقدمي بإصداره "بيان الرفض القاطع" لقرارات رفع أسعار المحروقات وتعرفة الكهرباء كونها حقوق اجتماعيّة وليست سلعًا ربحية، وبأنها حلقة من حلقات تحميل المواطنين كلفة الأزمة الاقتصادية في حين بقيت مراكز الثروة ورأس المال بمنأى عن تحمل أي أعباء، مؤكدًا أن هذا الخيار الاقتصادي يضغط على الأجور التي لم يطرأ عليها أي زيادة وبالتالي فهذه القرارات تنقل عبء العجز المالي من الدولة إلى المجتمع عوضًا عن مساءلة أنماط توزيع الثروة والامتيازات، كما وإن في هذا تكريس لتجريد الدولة من القيام بدورها الاجتماعي تمامًا كما سبق وعبر الشريف عن حقيقة خفض الدعم الحكومي والتلاشي القادم لشبكة الأمان الاجتماعي للمواطنين. وكان جيدًا أن سارعت سبع جمعيات سياسية بإصدار بيانٍ حول قرارات الحكومة الأخيرة برفض رفع الدعم عن تعرفة الكهرباء وزيادة أسعار المحروقات، مطالبة مجلس النواب بالتحرك الفوري ضد زيادة الكهرباء والماء والبنزين إيفاء لتعهداتهم بحماية مصالح المواطنين وحياتهم المعيشية.   

ختامًا إن المتضرر الأكبر من رفع الدعم عن الكهرباء وزيادة أسعار المحروقات هو المواطن المتدني والمتوسط الدخل ممن ازدحمت بهم محطات البنزين مساء أمس، إنها رسالتهم الفاقعة المعبرة عن عدم مراعاة الحكومة لقدرتهم الشرائية وهي مؤشر صارخ لمن يدير الاقتصاد عن البؤس الذي وصل إليه الناس، وعن هشاشة الوضع الاقتصادي؛ في الحقيقة إنه إنذار لأزمة قادمة إن لم يتم التعامل معها بشفافية وحكمة. 

المنامة - 30 ديسمبر 2025