منى عباس فضل
بشأن مناقشة الكاتب موسى السادة في مقالة له بعنوان: "إسرائيل
الكبرى": حديقة الحيوانات والرجولة في صحيفة الأخبار اللبنانية بتاريخ 21
أغسطس/آب 2025؛ أتفهم حرقة قلبه إلى ما آلت إليه أوضاعنا العربية من واقع انهزامي
عبرت عنه ممارسات النظام العربي الفاشل للقيام بأدواره ومستوجباته وتخاذله وتآمره
على القضية الفلسطينية والحق العربي؛ لكن من الصعوبة في آن؛ تمرير وتسويغ "منطقه
الذكوري" في تحليل عملية المقاومة والنضال ضد الاحتلال وحصرها في شجاعة الرجولة
"كقيمة متجذرة في العقل الجمعي" ومسؤولية المقاومة كواجب يخص الرجال
الشجعان فقط.
صحيح وله الحق في مقاربته لما تناوله تقرير سوري رسمي حول أحداث
الساحل، بأن يساق وبإرادتهم للحرب الأهلية ومسلخ الاقتتال على الهوية 200 ألف
مقاتل، أضعاف ما يستدعيه جيش العدو من الاحتياط لاحتلال مدينة داخل غزة، فيما هم
عاجزين -أي "مقاتلي العشائر والطوائف والوطنيات العربية"- عن إرسال هذا
العدد أو أقل منه واستحضار قيم الشجاعة والمروءة والأخلاق لمواجهة العدو الصهيوني
في غزة، نعم تساؤله منطقي وعقلاني، بيد إنه هنا يستثير النخوة العربية الذكورية في
مواجهة الاحتلال ولا غير؟!
إن ترجمة المعاناة القاسية والمتوحشة التي يمر بها واقعنا العربي؛ لا
تمنحنا مبرراً طوعياً للتخلي عن مفاهيم الحداثة التي استوعبنا صياغتها وفهمنا
مفاهيمها ودلالاتها؛ والتي يأتي على قمتها مفهوم "المساواة"! إن ما ذهب
إليه الكاتب يعكس بعداً فكرياً وسيكولوجياً وسيولوجياً؛ وهو بحق يخترق الذات الجمعية
في مجتمعاتنا ويتجاوز من خلالها لغتنا وقناعاتنا وحتى حريتنا في التفكير، فالمرأة في
منهجه التحليلي فعل مستتر وغائب ولا وجود له في فعل المقاومة والنضال؛ إن المقالة
حمالة بعداً فكرياً ووعياً فاقعاً ومكشوفاً وقائماً على إن العملية النضالية ومقاومة
الاحتلال هي في الأصل والتكوين "ذكورية" بحته صفتها ومدلولاتها "الشجاعة
والنخوة والإقدام"، وهي كما نعلم فكرة حاضرة ومعاشة في التاريخ العربي
والتراثي تخص الرجال، وعليه تبقى المقاومة والتصدي للاحتلال والعدوان والاستعباد
والقمع والإكراه بالنسبة إليه تتفاعل وتفسر في داخل أسوار "الأبوية"
وقلاعها؛ هذا البعد الخفي يكسر الدائرة المفرغة فنحن أمام صراع فكري حقاً يتجاوز
مرارة الواقع والانحطاط الذي وصلت إليه مجتمعاتنا في ظل الاحتلال الصهيوني-الأمريكي
ونظام الاستبداد والقهر العربي.
خاضت مجتمعاتنا العربية برغم قسوة الواقع؛ مراحل من التطوّر والتغييّر
الذي لا يمكن فيه لجم فكرة وجود "المرأة" في الفضاء العام ولا يمكن تقييّد
أدوارها وإلغاءها خارج أسوار "الفعل الذكوري" إن صح التعبير وفي المهمة
النضاليّة بالذات ومقاومة المحتل ومواجهة الاستبداد، لا مدلول غامض فيما سوغه فهو
واضح في استثارة النخوة العربية بلغة فصيحة لمواجهة الحالة الكارثية والخذلان الذي
بتنا عليه، وشئنا أم أبينا إن جزء مما ينمي هذا التوجه في مفاهيم هكذا ومصطلحات،
هو اللامبالاة وصمت غالبية نساء مجتمعاتنا العربية وعدم اكتراثها ولنقل قبولها
بهذا الواقع وصمتها عن هذا التحليل والقبول به كمسلمة لمجرد إنه مع القضية الفلسطينية
وضد الاحتلال الصهيوني.
في حقيقة الأمر، نعم لا يمكننا الانفلات من قيود الحاضر ولا استحضار
صور الماضي ونماذجه لمواجهة المحتل، إلا إن الحاضر كما يقول هشام شرابي "هو
أرض المستقبل وهدفه ودون العمل فيه وتغييّره لا يمكن العمل في المستقبل
وبناءه"؛ وعليه لا يمكن لمجتمعاتنا العربية أن تتحرر من الاحتلال والاستعباد
وانتهاك الحريات والحقوق طالما قبلنا واكتفينا "بالذكورية" منهجاً
وتفكيراً وأسلوب حياة ودرباً للتحرر والانعتاق.
إن قسوة الواقع وكارثيته تتطلب منا كأفراد رجالاً ونساءً وعيّاً
مكثفاً لفهم الإشكاليّات والقضايا التي نعايشها ونعاني وزر نتائجها، صحيح إننا نسعى إلى التحرر من الاحتلال الصهيوني
والإخضاع والاستبداد والاستعمار، لكن الصحيح أيضًا إننا مطالبين وبالأخص المثقفين
الحداثيين والملتزمين تميز أدوارنا في "المجتمعات العربية الأبويّة المعاصرة"،
فنحن كنا ولا نزال في مراحل استهداف التغييّر الاجتماعي أو ما يطلق عليه
"الثورة الاجتماعيّة"؛ هذا ليس تنظير من أبراج عاجيّة، إن تغير المجتمع
والإنسان يتطلب مجابهة الواقع السياسي المعاش من خلال وعي اجتماعي سياسي يدرك
ماهية وطبيعة دور "قوة السلطة القمعيّة في مجتمعاتنا دينية كانت أو سياسيّة
أو احتلاليّة"؛ إن في هذا الوعي فرصة لمواجهة حروب الهويّة والاقتتال المذهبي
والإثني والارتقاء به إلى تحرر الإنسان والأوطان؛ في هذا الصدد يشير شرابي ثانية وبما
معناه وتصرف "إن الخطر الأكبر يأتي من داخلنا من التمسك بالإيديولوجيات
الماضيّة والاتجاهات الفكريّة والممارسات السياسيّة التقليديّة التي لم تعد تصلح
لمجابهة أوضاع الواقع الحالي وتحدياته...إلخ".
إن نزعة التغييّر والتحرر من الاحتلال الصهيوني ومن الاستبداد والقهر
يستوجب أن تتوافر في صميمها وجوهرها على إرادة قويّة على المستوى الفردي والجمعي،
إرادة التحرر من الاحتلال والاستعمار وإرادة في آن لتغيير النظام الأبوي الذكوري،
أن لا يحكمنا هذا النظام في مفاصل حياتنا اليوميّة وقراراتنا؛ أن نتحول إلى نظام
آخر يقبل "بالمساواة وبالعلاقات النديّة والأفقيّة" وأن يتجاوز مستوى
الوعي فيه وفي حاضرنا مسألة استحضار مفهوم الشجاعة والنخوة بمنطق ذكوري، فهذا
المنطق لن يمنحنا الحلول النهائيّة لمشكلات مجتمعاتنا العربية ولن يحررنا ولن
يأخذنا إلى حاضرة الحداثة والتطوّر التقني.
إن التمسك بالذكورة كأداة حل ومدخل للتحرر من الاحتلال؛ إنما يعكس
عورة أيديولوجية ونفاق
أخلاقي وقيمي على حساب النصف الآخر من المجتمع، وفيه ما فيه من التكاذب على الذات،
فأمثلة الإقدام والشجاعة والمروءة والكرم والنخوة في مجتمعاتنا العربيّة التاريخيّة
لها ما لها وعليها وما عليها وهي ليست نموذجًا موضوعيّاً يحتذى به لإعادة قراءة
واقعنا الحاضر. إن بروز الوعي الاجتماعي والسياسي على المستوى الفردي والمجتمعي الناقد
لذاته وأوضاعه لهو شرط أساسي ومركزي لتغيير الواقع الأبوي وتجاوز تناقضاته بل لمقاومة
الاحتلال ومواجهة كوارثه وتحقيق التحرر والعدالة ونيل الحريات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق