منى عباس فضل
"ما
أضيق العيش لولا فسحة الأمل".
آخر عبارة استلمتها منه قبل سنوات قريبة بالواتس أب، كانت تعليقاً على بوست عبرتُ فيه عن حزن أسود يتحوطني.
التقيته
لأول مرة بقاعة دراسية في حرم العلوم الإنسانية بجامعة القديس يوسف ببيروت. غصًت القاعة
بدفعة دراسية قوامها يربو على المئة وستة عشر من طلاب وطالبات تنوعت بلدانهم
ومشاربهم، جاءوا بحماس للتحضير للدراسات العليا عن بعد، وارتضوا أن يعاد
إنتاجهم وصقلهم بتنشئة جامعية جديدة في رحاب هذا المحراب.
بدأ المحاضرة بتقديم استهل فيه حديثه عما تعنيه الدراسة في هذه الجامعة؟ ما الخيارات التي أمامنا؟ صدمتي كانت كبيرة من شدة صراحته، وللتحدي الذي واجهنا به، قال:
- أراهن ألا يبقى منكم عشرة أنفار في نهاية مشوار الماجستير والدكتوراه، فتخيروا من الآن دربكم، ولينسحب من ينسحب، فمن سيبقى هم قلائل جداً، إن تحصيل المعارف والمؤهلات عندنا مهم، الأهم منه أخلاقيات العلم، والتحلي بالمثابرة والشك والموضوعية والمنهج الحسي النقدي بحثاً عن الحقيقة.
ترجل منذ أيام مضت، وغادر الحياة؛ أستاذنا الجامعي الدكتور أفرام البعلبكي؛ الذي أشرف بسعة ثقافته وعلمه على رسائل الطلبة وأطاريحهم، وهو من علمهم منهجه في النقد محفزاً أدمغتهم محاصرهم وهم منهمكون دفاعاً عما احتوته أطروحاتهم ومراجعهم وعن المعارف التي نهلوا منها، عن سهر الليالي والخوف والقلق.
إنه المربي معلم الفلسفة والأدب العربي وعلم الاجتماع والفلسفة التربوية بقضاياها من الإشراف إلى التقويم وبكل ما له صلة بالمجتمع. درسني التقويم التربوي ومنهجية الاختصاص عند تحضيري لرسالتي الماجستير في العلوم الإنسانية والتربوية التي أشرف عليها وكان أحد أعضاء لجنة مناقشتها، كما كان القارئ الثالث لأطروحتي في الدكتوراه ورئيس لجنة مناقشتها، كان محاوراً متقد الذهن في معالجاته العميقة يُقوم ذهنك ولغتك العربية بتحد لا مثيل له، عقلاني ملهم بمنهجيته الخطابية الارتجالية الناقدة والدقيقة.
تسنى
لي خلال مراحل الدراسة التي أمضيتها بشغف في الجامعة؛ التعرف عن كثب على أفكاره وفلسفته
وكتاباته؛ فهو شديداً للغاية ولا يتهاون، علمي التفكير والمنهج، تعلمنا منه طرح
الأسئلة المتشعبة وتنمية روح التحليل والنقد وتوخي الموضوعية، تعلمنا معه الصبر
الشديد والانضباط ونحن نخوض في متاهات دربنا الأكاديمي، كان يؤمن بالاختلاف ويرى أنه
قوة لوجود الذات، ولطالما ردد على مسامعنا بما معناه أن "الفلسفة عنده منهج عقلاني
علمي في البحث عن الحقيقة"، وهو الذي يشدد في مفهومه للتربية بأنها فعل مكتسب
وتنمية وتراكم معرفي واطلاع، أوصلني كما أوصل غيري في نهاية المطاف إلى محطة الأمان،
وأنا محملة بعدة بحثية وعقل ناقد لا يقبل المهادنة بحثاً عن الحقيقة ولا يقبل بالتفاهات.
إنه القدر، إنها النهاية التي تهاجمنا بين دورة الحياة والموت، وداعاً لمعلمي الفاضل الذي حمل راية العلم واعتلى منصة الشك وترك لنا وللأجيال إنجازات فكرية ومعرفية.
أرقد بسلام، الرحمة والمغفرة على روحك التي ستبقى مضيئة في رحاب العلم والمعرفة.
المنامة – 25 أغسطس 2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق