منى
عباس فضل
يستعرض الأديب اللبناني رشيد الضعيف في نصه "خطأ
غير مقصود"؛ المستور من العيوب والبوح بما في عمق الأعماق وما لا يجرؤ الشرقي
في أيامنا بالحديث عنه علانية أو كشفه، يحكي الخوف والقلق والتوتر القابع في دواخلنا
دون حرج، دون مواربة.
الرواية إن صح تسميتها رواية، عبارة عن نصوص قصيرة
متتابعة ومتفرعة من وقفات لسيرة المؤلف الذاتية، يتناغم فيها الواقع بالمتخيل، الجدية
بالسخرية في استعادة ماضٍ لسنوات الطفولة في علاقته مع أسرته وفي الأكثر تشابكاً
وتعقيداً؛ وهو علاقته بالأم والأب ومغامراته في مضاجعة النساء، بل وفي فشله بذلك مع
اشتداد خريف العمر وهو يتجاوز السبعين عاماً وقد عرف من طبيبه أنه مصاب بسرطان
البروستات. أخذ عليه بعض النقاد في كتابة هذا النص؛ ميله للتشبه بتجارب كتاب
عالمين وتقليدهم، بعضهم وصف نصه بأنه عبارة عن أقاصيص وحكايات ويوميات ومدونات
شخصية لا تتعدى كونها قصصاً قصيرة.
على أيا حال، ما يجمع نصوصه يبرز عبر تنقله في الحكي عن
حياته منذ الصغر وحتى الشيخوخة وبما تضج به من خبرات وما خلص إليه من عبر. قد يجد القارئ نفسه في لحظة ما، بين دفة نص مفكك
متناثر لا رابط بين أجزاءه غير متعة التسكع والبحث والتلصص في المدى الذي سيصل
إليه رشيد في البوح والتضارب والتهكم على الهزائم المتلاحقة على المستوى الشخصي
والعام.
يكشف رشيد بأسلوب الخفة عن كوارث لبنان التاريخية وما
انتجته، يأخذنا إليها عبر النص، وعلى محمل الجد حيناً وبالسخرية والهزلية إلى حد
الاستفزاز حيناً آخر، تماماً كما عهدناه في أعماله السابقة. فالضعيف مثقل بالهموم
الكبرى والقضايا المصيرية؛ بيد إنه يفسح لنا مساحة يحررنا فيها ويضعنا على مسافة
قريبة من مكاشفة ذواتنا، يشجعنا للمضي قدماً للاعتراف ولو ما باب المزح والتندر بما
هو مقفل ويستعصي الحديث عنه؛ من ألم وضعف وهزال وعبث يرافق حيواتنا في مجتمعاتنا الشرقية
المشوهة في علاقاتها مع ذواتها ومع الآخرين، ومع ذلك فهو يختبر ذائقتنا الأدبية في
آن، كيف؟
قرأت النص، وأنا في خضم إنجاز بحث علمي، شعرت خلاله إنني
محاصرة به -أي العمل-، وحاجتي ملحة لقراءة شيء من رشيد الضعيف تحديداً، بحثت عن تسلية
لكنها لم تكن كأي تسلية، في حقيقة أمرها؛ هي رؤية مفاهيمية سجاليه تغلف ما يعترينا
من حالة نفسية ووجودية بهالة ضبابية. أمضيت وقتاً أتامل في نصوصه الواقعية وأعيد قراءتها
وأقلبها فقد أشعلت في ذهني أسئلة وأفكار تداعت إلى الوقوف عند مساءلة مواقف معقدة أشاهدها
حولي في أشكالها ومضامين بواطنها.
نصه يعد نقداً اجتماعياً لاذعاً وإن أنكر عليه ذلك بعض النقاد،
فهو يفكك الذكورة الشرقية في أقصى تجلياتها ومعانيها الحميمية، يتحرر منها بالبوح عبر
شخصيته، ويترك من خلالها خيطاً رفيعاً من الهلع الذي يضع فيه الشرقي بمواجهة صارخة
مع خيانة الجسد والتقدم في العمر ومع ازدواجيته وتناقضه في علاقته بالمرأة، المرأة
الزوجة التي تقدمت معه في العمر، وهي تعاني مما يعانيه وإن تجاهل ذلك، يقابلها
علاقته بالمرأة الأخرى المشتهاة، الشابة الصغيرة التي في عمر ابنته، والأخرى صديقته
أيام الدراسة التي يستحضرها في أحاديثه وعبر مغامراته في أحلام اليقظة، وحتى علاقته
بالمرأة عاملة المنزل الحبشية التي ينظر إليها مجتمعه بعنصرية وازدراء، رشيد يفضح
حالة العجز في وداع الفحولة ويختبر نفسيته كإنسان بجرأة يكشف فيها حالة التأقلم مع
هذا الوضع المشوه والمريض والمؤلم بكل تحيزاته.
وبنظرة فرويديه يمارس الضعيف تعرية النفس وإن
بتورية، ينبش القديم من دفاتره بلوحات يرسمها بهزلية حول علاقته المضطربة مع أمه ويخلخل
الهالة التي يدور حول دورها وتشابك ذلك مع سرديته بعلاقة الفطام بالسياسة، تبرز
الشهوانية بنفور حادّ وهو يربط تلك الصور مع سيرة حياة جدته التي عثر عليها وهو
يتقصى تاريخ عائلته المهاجرة في نيويورك، ليكتشف أمرها وهي الصبية المهاجرة ذات
العشرين عاماً حيث كانت مدبرة شؤون منزل السيد المسن الأمريكي "بايكر". هي
اليوم أشبه بعلاقته المماثلة مع مدبرة منزله الحبشية "فاكرة"، إذ تأخذ فيها
العلاقة أبعاداً بدلالات مخفية، تجد تعبيراتها في الرغبة الجنسية الأقرب إلى
التحرش والاعتداء الجنسي وتتشابك مع الاستغلال بالاستدراج بالمال والملامسات في وضع
العوز والفقر والهجرة والرغبة، وهنا لا يغفل رشيد التوقف عند استسلام المرأة لهذا
الاستدراج وتناقضها وهي تصر على الاحتفاظ بما تبقى لها من عذرية تؤهلها للزواج عند
العودة إلى بلادها.
يقابل
ذلك تداوله في سيرة صديقه الشيوعي "نعيم" وما وصل إليه، يعرى خفاياه في
علاقته الملتبسة مع زوجته التي يحبها ويحترمها وتمثل عنده خطاً أحمر لا يمس، في ظل
علاقاته الأخرى المدنسة والعابرة حتى وهو يتخطى السبعين عاماً، لاسيما مع نادلة
المقهى الشابة الصغيرة "غنى" بل والفتى الصغير، وهو الذي يتباهى استعراضاً لأفكار النظرية الماركسية ومبادئها ورموزها
وللحتمية التاريخية والتنظيم الحزبي، صور تعبر عن مفارقات في درب العبور، شُعورٌ بالقرف
والاشمئزاز الممزوج باللامبالاة، وعند نهاية المطاف يبرع الضعيف في استحضار تقنية
التهرب منها وهو الذي يلجأ إليها كلما أراد كسر التابوت والغوص بنقده للوضع
الممسوخ بالمحرمات.
في كل
الأحول، رغم الانتقادات الحادة التي تناولت نصه الجريء، إلا إن النص ينطوي على
دلالات حسية عميقة لعلاقة الرجل بالمرأة وما تعكسه من ازدواجية وتناقضات في مجتمعاتنا،
وليبقى أمره تعبيراً عن مدى استعداد القارئ للتماهي مع حالة الاستدراج التي يقودنا
إليها رشيد الضعيف للبوح والتعبير عن مكونات النفس وهي تتألم.
المنامة – 6 أغسطس 2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق