منى عباس
فضل
هم يبدأون السهر بعد
الحادية عشر مساء، الأغلب الآخر يغدو الى النوم في ذات الوقت من كل مساء بارد
ينتظرهم فيه عمل شاق في اليوم التالي. أغلبهم تجهزوا في تلك الليلة لقضاء سهرة أنس
ومرح وليس للإيواء في فراش النوم مبكراً.
وصلوا صالة السهرة منتعشين
ومبكرين وهم أول الساهرين لكن الفضول يتملكهم من خلو المكان، فيما الأسئلة تدور في
رؤوس العاملين المحيطين بهم حول الوجوه الغريبة التي ترتاد الصالة لأول مرة. ادعوا
اللافهم في مسألة توقيت السهرات على طريقة "إعمل نفسك ميت" واستغربوا متسائلين
أن لا أحد وصل قبلهم.
عمرت طاولتهم بما لذا
وطاب من الأكل والشراب، وكان لافتاً للنظر، باقات الورد الحمراء المتربعة في واجهة
طاولات الصالة الأمامية... كيف ولماذا تربعت بالذات على هذه الطاولات وليس على
غيرها؟ سؤال ظل عالقاً في رؤوسهم وفرضيات الإجابات تتراوح شمالاً ويميناً.
***
حان وقت بدء السهرة،
فجأة امتلأت الطاولات على ما يبدو بأناسها من الزبائن الدائمين، بدأت أعناق الشيش
تنتصب أمامهم وخلفهم والأيادي ترتفع بالتصفيق والأذرع تتمايل وتؤشر، والطلبات تزداد
دون توقف وحركات دؤوبة من الجرسونات هي الأخرى لا تتوقف.
بدا الأمر في البداية
وكأن هناك من يحتفل بعيد ميلاده أو زواجه أو أي شيء من هذا القبيل، فاشتعلت الصالة
فجأة وبحماس منقطع النظير بأنوار مشاعل القناني وتحيات المطربة وحماسها وتشجيعها
الذي لم يخلو من عبارات الإطراء بالشهامة والمروءة والكرم والرجولة وكل شئ بما يشبه
ما نشاهده في بعض الأفلام.
تبادل القادمون الجدد
النظرات ثم الابتسامات ثم ارتفعت قهقهاتهم، وهم لا يزالون حائرين في محاولاتهم تفسير
المفسر والصالة تضج بالأغاني والموسيقى الصاخبة المصاحبة مع إيقاع الطبل كما كنا
نشاهد في مسرح الغناء لسميرة توفيق، غطى الصالة دخان كثيف من مداخن الشيش المرصوصة
بأناقة فاخرة خلف أصحابها وكأنها عرائس صغيرات يتهيأن للرقص متى ما أشير إليهن.
***
يزداد حمى الطرب وتتعالى
أنغام الموسيقى الشرقية مع الأصوات الصادحة وتزداد معها طلبات إشعال القناني الصغيرة
والكبيرة التي تتربع فجأة على جانبي المسرح وعلى طاولة صاحب الطلب على شرف تلك
الفتاة المحظوظة الجالسة أمامه، وبكل هذا الكرم العربي الحاتمي والاهتمام المبالغ
فيه تتضاعف تحيات المغنية بعبارات الشهامة والكرم والجود، فيما المحظوظة تتمايل
غنجاً وطرباً بعد أن كانت في كامل وقارها ورزانتها على الرغم مما بدا عليها من
مفاعيل عمليات التجميل والتعمير بدءاً من لون صبغة الشعر الأشقر حد البياض إلى
الرموش الاصطناعية الطويلة إلى تغضّن بشرة الوجه والخدود بنفخ البوتكس الذي ضيع التعابير
والملامح الأصلية الجميلة، وكل من يقترب من طاولتهما يبث فيها شيئاً من الاهتمام وبعضاً
من التودد والرغبة، وهي تواصل تغنجها بافتعال مبالغ فيه وكأنها صبية للتو تتخطى الستة
عشر عاماً، على الرغم من آثار الزمن وأفعاله في عمر الخمسين التي لا تخطؤه عين
متفحص.
***
هو أمامها يتراقص ويتمايل
يأمر وينهي وكأنه سلطان زمانه وبشيء من التواطؤ يتنافس مع من يشبهونه في الصالة بإشعال
أكبر عدد من القناني تارة، وبطلبات تغيير أطباق الأكل وتقديمها بشكل مختلف تارة
أخرى، هما لا يتوقفان عن احتساء ما في الكؤوس ولا يأكلون ما يطلبون، وأنت تفكر وتسرح
بعيداً في المشهد الاستفزازي المثير متسائلاُ عن مفارقات الزمن وعن الجياع المشردين
والمهجرين الذين يفترشون الأرض والسماء نياماً في الشوارع الخلفية لصالة الفرفشة
والوناسة. تلك الأم التي تربعت على الرصيف المظلم الجانبي مع ولديها الصغار وأمام
أحد المقاهي تمد اليد وتهدهد بالأخرى على رضيعها الذي تغطيه بقطعة كارتونة...
***
فجأة تتبدّد الفكرة مع
حضور راقصة الإغراء على المسرح ويقفز الجرسونات في حمى دورة إشعال قناني جديدة
وبكثافة أكثر هذه المرة حتى تكاد تشعر أنك في قلب تنور، أما "أم محمد"
التي حضرت للتو رفقة حراسها فقد قدمت إليها التحيات وقرعت على شرفها الكؤوس، فاشتعل
قلبها وتبخرت بعض أحلامها ومشاعرها بين أدخنة الشيس وأضواء المشاعل.
***
ابتسمت وغابت
وأنت غائب في حضور هذا المكان الذي لا يسع للجوع أو العوز، فقط لمظاهر البذخ
والسعادة المفتعلة والغنج حيث كل شئ قابل للبيع والشراء بدءاً من مشاعل القناني إلى
الورد الأحمر إلى الابتسامات المسروقة إلى النظرات إلى المواقف إلى الضمائر وحتى إلى
شرف الأمة العربية، لا تسألوا كثيراً لماذا تعشش الهزائم في أوطاننا ولماذا يخذلنا
التاريخ؟ فالسر يكمن في مشاعل القناني وباقات الورد الأحمر.
بيروت – 18 ديسمبر
2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق