منى عباس فضل
ماذا يعني أن تخصنا العمة رازقية في كل فصل من
فصول حصاد ثمرة "البمبر" و"ليمون الترنج" بمرطبانات الآچار ومربى
الترنج المهيل بماء الورد والزعفران؟
-
يعني الكثير.
هي أشياء صغيرة برسالة كرم ومحبة وتدليل لا تخصني وأخواتي وأخواني بها فقط، إنما تخص أولادنا بنين
وبنات تكتب أسماءهم عليها جمعيًا ويتجاوز كرمها لأقرب صديقاتها ومن يعز عليها.
من منزلها تدق علينا الهاتف، تذكرنا بمحصول الخير
والمحبة المتجدّدة؛ تذكرنا بأن لأبناء وبنات أخيها الذين أسهمت في تربيتهم مكانًا حاضرًا
في قلب لا يزال ينبض بالحياة ويفيض بحب لا ينضب.
العطية الموسميّة غدت تقليدًا لعمتي التي هي على
عادة أهلنا الذين رحلوا وتركوا البيوت فارغة بأبواب مؤصدة إلا من ذكريات ملتبسة
بين سعادة ووجع ينخر بين ضلوعنا. هناك في تلك الليالي بأضوائها الخافتة وبطقوس دافئة
تجتمع عائلتي على سفرة عشاء بسيط تتقاسم فيه "مربي الترنج" الذي تم تحضيره
في البيت ولكل منا قطعة صغيرة من الجبن ورغيف خبز ساخن للتو أحضره العم عيسى من
الخباز.
يلتم شملنا على وقع ضوضاء وأحاديث تتداخل فيها أصوات
وانفعالات تعلو على التلفاز الذي نتحلق حوله؛ وفي تلك الزاوية تتربع الجدة بنت زبر
وهي نبع من حنان؛ لكنها هذا المساء غاضبة لابسة قناع الصرامة؛ غاضبة تشكوني أو
تشكو أحد الأخوة أو الأخوات على أمر ما عند والدي المثقل بأعباء الحياة وكدها؛ نظرات
العمات صامتة تكشف أسرارها في الأعماق وهي تنبي بالكثير؛ مصحوبة بوجل وخوف على
المشتكى عليها أو عليه؛ غالبًا ما تمضي الليلة بسلام بعد عتاب ونهر وغضب دفين يصاحبه
التهام تلك الوجبة فمع الجوع لا مجال للزعل أو الحرده.
مع هذا الطقس يبقى طعم ذلك المربى البيتي عالقًا
في الذاكرة يهزنا؛ ولا ينسى؛ وعمتي تشبه نفسها حين يتقمصها الحنين وهي تعد المربى
والآجار؛ لا يمكنها مفارقة ذلك الزمن ولا التحرر من ذاك المكان المثقل بالذكريات والأوجاع
وقسوة الزمن ولا القفز على شعورها العميق بالواجب التربوي الذي حملته على كاهلها
منذ صغرها ولا مسؤولية متابعة كل شاردة وواردة في شأن عائلتها الممتدة؛ فهي لازالت
تدور في رحى الدائرة التي تتنفس منها؛ دائرة المحبة والبذل والعطاء بسخاء...
شكرًا عمتي "رازقية" من الأعماق على كل
شيء جميل أعددته وصنعته بلمسة حب.
المنامة – 4 سبتمبر 2025