الثلاثاء، 2 أبريل 2024

في المشهد الاستراتيجي: غزة بابٌ للعبور

 

ينشر بالتزامن في مجلة الهدف - لتحميل العدد 57: اضغط/ي هنا

https://hadfnews.ps/post/127335


منى عباس فضل

 

من نقطة الانطلاق، تحديداً من عملية "طوفان الأقصى" تعمل دوائر القرار السياسي والخبراء والمحللون وفق سيناريوهات متعددة لتفسير وتحليل ما حدث وتداعياته الاستراتيجية على المنطقة، وتقديم استشرافات ما بعد الحرب على غزة، حيث تتكرر الأسئلة حول أبرز مشاهد الحدث وأهميتها وتأثيراتها التي تتشابك مع صراعات المنطقة وتداخل حروبها وواقعها الجيوسياسي.

 

فالحرب على غزة مستمرة ومفتوحة زمانياً ومكانياً، وهي حربٌ غير تقليدية وبأهداف محددة ومفاوضات بين أطراف تسعى إلى وقف إطلاق النار وما يترتب عليه الأمر، لماذا؟ لأن الإسرائيليين أعلنوها بأنهم يخوضون معركة وجودية، وإن أهدافهم المتطرفة تتمحور حول تدمير المقاومة والاحتفاظ بالسيطرة الأمنية على غزة حتى لا تشكل تهديداً لهم؛ وأداتهم في ذلك "الإبادة الجماعية"، واحتمالات تمدد الصراع تصاعدياً إلى أبعد من غزة، تحديداً إلى الجبهات الفلسطينية كـ"الضفة الغربية" ومناطق أخرى كلبنان وارد، وذلك في ظل استعصاء التوصل إلى أي اتفاقات لوقف إطلاق النار أو عقد أي صفقة لإطلاق سراح الرهائن والأسرى الفلسطينيين مع إصرار إسرائيل على تحقيق أهدافها المعلنة باحتلال غزة وحصارها وتهجير الفلسطينيين خارج أراضيهم، وتنفيذ التطهير العرقي واستباحة الضفة الغربية، وعليه فملامح المشهد الاستراتيجي متداخلة وتبرز باتجاهات مختلفة المسارات وبوضع مرشح إلى المزيد من مشاريع تقسيم المنطقة وارتفاع حدة العنف والإصطفافات؟

 كيف؟ نشرح أكثر.

 

القضية الفلسطينية قوة ضاغطة

فلسطينياً؛ عادت القضية الفلسطينية لتشكل قوة وأولوية ضاغطة على النظام العربي والعالمي، وهي تتضمن انعكاسات وارتدادات خطيرة ومتعدَدة إقليماً ودولياً، الدلالة تتكشف من تمدّد الحرب إلى ساحة البحر الأحمر ودخول اليمن والعراق على خط الاشتباكات الأخيرة التي تمس مصالح العدو الصهيوني والأمريكي والأوروبي في المنطقة، وبالتالي جر الولايات المتحدة إلى صراع قد يقلب مواقفها وسياساتها ويكون معه الوضع أسوأ بكثير مما هو عليه، فالسلام والاستقرار الذي تنشده الأخيرة يمر عبر غزة، هذه حقيقة فاقعة، وقد أثارت الضربات الانتقامية التي نفذتها الولايات المتحدة وحلفاؤها قلقاً عالمياً، لم لا وطريق البحر الأحمر يعد أحد أكبر ممرات الملاحة بين أوروبا وآسيا حيث تمر عبره نحو "15%" من حركة الملاحة البحرية في العالم، ويرى بعض المراقبين بأن هذه الضربات إنما تدلل على ضعف السياسات الأمريكية وتراجع قوتها في منطقة الشرق الأوسط.

 

في المشهد العام، النظام العربي وعلى الرغم من أهمية بلدانه استراتيجياً إلا أن الواقع عرّى كل مساوئه، فهو يعاني من الضعف والتفكك والانهيار ودوله تفتقد إلى فعل السياسة الخارجية والنظام الإقليمي المستقل، وهي ومنذ عقود رهينة لتحكم القوى الدولية ونفوذها وسيطرتها، كما إنها مخترقة من قبل بعض الأطراف الدولية والإقليمية حتى في ممارسة أدوارهاً السياسية والاقتصادية؛ مما يجعلها على خط ناري من المصالح المتضاربة والأجندات الجيوسياسية والتنافس على مناطق النفوذ والموارد والممرات المائية الاستراتيجية التي تزعزع أمنها القومي بل وحتى سيادتها.

 

ومع تكشف مسارات الحرب على غزة، اتجهت التحليلات مجدداً للحديث عن تشكل "نظام شرق أوسطي جديد" تدفع باتجاهه الولايات المتحدة الامريكية التي برز دورها على المستوى الإقليمي والعالمي، لاسيما مع النزاع الأوكراني والحرب على غزة ومشاركتها في صنع القرار الإسرائيلي وعدم اقتصارها على الدور الدبلوماسي وهذا وضع غير مسبوق حسب رأي البروفسور ناثان ج. براون من جامعة جورج واشنطن، إلى جانب ما تقدمه من مساعدات ودعم ثابت تمنحه إلى إسرائيل "14 مليار دولار" للمساعدات الأمنية و"3.8 مليار دولار" تتلقاه سنوياً، عدا عن مساندات من حاملات الطائرات، والغواصات النووية، وجنود وضباط وقيادات عسكرية أمريكية تشارك الجيش الإسرائيلي في حربه، فيما تطرح من جهة أخرى تركيا وإيران أنفسهما كلاعبين إقليميين يفرضان حضورهما في أي تحالفات أو ترتيبات تتم في المنطقة.

 

طوفان الأقصى نقطة تحول

وعليه لا مبالغة في القول بأن عملية "طوفان الأقصى" قد شكلت في هذا الوضع المتحرك والحرج نقطة تحول وانعطافة استراتيجية في الشرق الأوسط، وأصبحت معه القضية الفلسطينية ببعدٍ رمزي محركاً دولياً سيمتد تأثيره على أي اتفاقيات وترتيبات ستشهدها بلدان المنطقة؛ ناهيك عن التطوُرات التي ستلحق بإعادة تشكيل المشهد الإقليمي، فالدعم الأمريكي لإسرائيل مفتوح بل وتدخلها مباشر في قرارات الصراع كما اشرنا بسبب تخلخل القوة العسكرية الإسرائيلية، وتمدد نشاط المقاومة في لبنان والعراق واليمن وبالتالي اختلاط الأوراق، وهذا ما يجعل الطرف الإسرائيلي يتحرك بمسارات أكثر تشدداً تجاه القضية الفلسطينية، ويساعده في هذا الموقف ما حققه نسبياً منذ عام 2020 في إطار اتفاقيات "التطبيع الإبراهيمية" مع بعض الأنظمة العربية والخليجية كـ"الإمارات والبحرين والمغرب" وقبلها مصر والأردن والتواصل مع قطر وتبادل الاتصالات والحوارات التي تعطلت منذ حرب غزة بشأن التطبيع مع السعودية، وإسرائيل في هذا الإطار وبما حدث في مجتمعها من انقسامات حادة بعد "طوفان الأقصى" وقضية رهائنها العالقين، تناقش وضعها الاستراتيجي ضمن سيناريو الاحتلال الكامل لقطاع غزة وضم الضفة الغربية وتهجير الفلسطينيين، الأمر الذي يؤدي إلى المزيد من التحديات لأطراف النزاع وانكشاف الصراع وانعدام التوازن في المنطقة وعدم الاستقرار.

 

بالنسبة للمقاومة الفلسطينية ورغم من تطوّر أساليبها وأدواتها إلا أنّ وضعها غير متكافئ مع جيش الاحتلال، لكنها في ذات الوقت تمتلك حاضنة شعبية وبنية تحتية من الأنفاق تحت الأرض عجز جيش العدو حتى اللحظة عن كشفها، وهذا الأمر يربك حسابات الجانب الإسرائيلي خصوصاً مع إطالة أمد الحرب، وتغيير قواعد الاشتباك في تحركات الجبهات اللبنانية واليمنية والعراقية التي تشتت إسرائيل وتربك حساباتها كما وقد توسع من نطاق الصراع على هذه الجبهات وغيرها، وبالتالي تخلق حالة من انعدام التوازن الأمني في المنطقة بسبب التضارب بين موقف الشارع العربي الرافض للوجود الإسرائيلي واحتلاله لفلسطين، وبين حكوماته التي اتجهت إلى التطبيع مع العدو وعقد الاتفاقيات والاتصالات.

 

أخطر السيناريوهات

أما أخطر السيناريوهات المتداولة؛ فهي تتمثل في دخول إيران مباشرة في الحرب، خصوصاً مع ما تنفذه إسرائيل من اعتداءات واغتيالات بحق عناصرها، ما يعني التدخل الأمريكي المباشر أيضاً، وهذا يجعل المنطقة على كف عفريت في زيادة مستويات التصعيد بتأثراتها على النظام الإقليمي والدولي، وتشابكها مع صراع القوى الدولية على المصالح والنفوذ، وثمة من يقول بأن هذا الوضع ربما يكون مريحاً لروسيا التي لا تزال تخوض حربها مع أوكرانيا، لاسيما حين تحقق انتصاراً وتقدماً، وإن ذلك حتماً سيؤدي إلى عالم متعدد الأقطاب خصوصاً مع تنامي الدور الصيني والروسي في المنطقة وتعزز دورهما الإقليمي وقد شهدنا منذ فترة تحركات الصين باتجاه السعودية لفتح قنوات تواصل بينها وبين النظام الإيراني.

 

على المستوى الإقليمي العربي، تبرز التحديات فاقعة، مباشرة في كل من مصر والأردن من تداعيات غلق المعابر والأزمة الإنسانية التي تحدث في قطاع غزة واستمرار جيش الاحتلال بقصف الشعب الفلسطيني والتجاوزات التي تتم في كافة الأراضي الفلسطينية، فما يحدث يمثل قلقاً وتحدياً عميقاً لهما، خصوصاً مع إصرار إسرائيل والولايات المتحدة على التهجير القسري للفلسطينيين، والمخاوف تبرز حول سيادة أراضيهما بهذا التهجير إلى سيناء والأردن، وتبعاً للمحليين فإن ضغط الكارثة الإنسانية التي تحدث في الأرضي المحتلة قد يعيد تشكيل مشهد النزاع الإقليمي والنظر جدياً في أولويات السياسات الأمنية المتعلقة بقضايا السلام والحرب كما قد يؤلب الشارع المصري والأردني على حكوماته ونكون أمام انتفاضات واحتجاجات شعبية كالتي حدثت قبل عقد من الزمن، فيما يرى آخرون بأن هذا الوضع قد يعيد الحوار مجدداً لإحياء مبادرة السلام العربية وحل الدولتين الذي ترفضه إسرائيل وكذلك المقاومة الفلسطينية.   

 

يضاف إلى ذلك؛ تحديات إقليمية أخرى تتشابك مع مسارات الحل السياسي في ليبيا وفي الحرب الدائرة على السلطة في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع وتدخل الأطراف الإقليمية غير المباشر في هذا الصراع وبتداخلها وتشابكها مع المصالح الخارجية والانقسامات الداخلية ما يجعلها ساحة مفتوحة على حرب طويلة الأمد، فالمشهد هنا مثقل بالتحديات الإقليمية والدولية وأطرافها الفاعلة والمؤثرة والذي حتماً ستدخل في اعتبارات إعادة تشكيل خارطة المنطقة ما بعد غزة.

 

ازدواجية المواقف والأفعال  

على المستوى الدولي، اتسعت قاعدة المعارضين للحرب المدمرة على غزة وعلى المذبحة التي ترتكب بحق الشعب الفلسطيني، وقد تابعنا موقف "دولة جنوب أفريقيا" المشرّف في محكمة العدل الدولية ومن دعمها كالبرازيل وماليزيا وباكستان وغيرهم؛ إلى جانب الاحتجاجات التضامنية في أوروبا والولايات المتحدة واستنكار شعوبها للمواقف المزدوجة لدولها خصوصاً من قضية وقف اطلاق النار في غزة واستمرارية بعضها في دعم الكيان الصهيوني، فقد عبرت بعض الشعوب والنخب السياسية والمجتمعية عن استنكارها لما يحدث من مواقف سلبية وعدائية تجاه الشعب الفلسطيني، ومما لاشك فيه فإن هذا يمثل صحوة ضمير، كما يثير الكثير من القلق في دوائر القرار بالعواصم الغربية، لاسيما تلك التي يتغلغل فيها النفوذ السياسي والإعلامي الصهيوني.

 

الخلاصة، وبرغم زخم حراك الشعب العربي  ضد الحرب الإسرائيلية واحتلال فلسطين؛ إلا إنه لم يصل بعد إلى مستويات التأثير على المشهد العام؛ لم لا ومؤسسات الدولة العميقة في أغلب البلدان العربية وخصوصاً المطبعة مع العدو، لا تزال تعمل وتتحكم في إيقاع الحراك الشعبي العربي ومما يزيد الطين بلة، الضعف الذي تعاني منه الحركات الاحتجاجية وعجزها عن إفراز قيادات حزبية ونقابية شعبية قادرة على التأثير الفعلي بالتعبئة وإدارة الموقف السياسي الذي يجبر النظام العربي على مراجعة موقف بعض أطرافه المتواطئ مع إسرائيل واتخاذ إجراءات تعبر عن مواقف الشعوب العربية في تضامنها مع القضية الفلسطينية، أما الأمر الثابت الذي يسجل في هذا المشهد، فإنه ودون حل للصراع التاريخي بين العرب وإسرائيل وحصول الشعب الفلسطيني على حقوقه في سيادة أرضه واستقلاله وحريته، لن يكتب النجاح لأي استقرار لكيان العدو الصهيوني أو لأي نظام جديد يعاد تشكله في هذه المنطقة.

 

المنامة – 19 مارس 2024


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق