السبت، 16 يناير 2021

من الذاكرة

 


منى عباس فضل

 في عام 2000 تعرفت صدفة على هشام شرابي من خلال كتابه "مقدمات لدراسة المجتمع العربي" الصادر عن دار الطليعة ببيروت 1975، وكما حدث معي في بدايات قراءتي لمؤلفات نوال السعداوي، حدث ذات الأمر وأنا أقر لشرابي، اهتز شيء ما بداخلي لما تناوله من تحليل نقدي لبنية مجتمعاتنا، كتب في مقدمة كتابه:

- إن التجربة كشفت لي عن مقدرة الثقافة المسيطرة في اخضاع عقلية الفرد لقيمها وتضليله على أعمق المستويات. شعرت انني ابتدأت بكسر القيود الفكرية التي كبلتني، وأصبحت أسير في اتجاه فكرى مستقل استمده من قوة داخلية وليس من قوة تسيطر علي من الخارج. أدركت أن الخطوة الأولى في التحرر تكمن في التحرر الذاتي، وان بداية التحرير تكمن في التخلص من عبودية الفكر المسيطر.  

 

من هذه العتبة انطلقت استكمل قراءة كتاب هشام شرابي بنهم، تعرفت على آراءه لبنية العائلة بالمجتمع العربي من حيث سماتها؛ الاتكالية، العجز، التهرب، إلى رؤيته للوعي والتغير، إلى تنظيره بشأن الإنسان العربي والتحدي الحضاري والمثقف العربي والمستقبل حيث ركز على التثقيف الاجتماعي والتلفزيون والأهم هيمنة البنية الأبوية البطريريكية في المجتمع العربي المعاصر تلك التي تتجسد في علاقات المجتمع لاسيما العلاقة مع المرأة وما تتعرض إليه من تنشئة اجتماعية يسودها التسلط والأبوية. 

 

حين أنهيت الكتاب شعرت بظمأ شديد للتعرف أكثر على أفكاره وأعمق، من أسف وقتها مكتباتنا كانت فقيرة لا تحتوي رفوفها على الممنوع والمغاير من الكتب، شاءت الأقدار أن أحصل على عنوان بريده الإلكتروني تواصلت معه حيث كان يقيم في واشنطن، كتبت له بحماس طفولي ماذا فعلت بي أفكاره وتحليلاته شاكية حال مكتباتنا، طلب مني عنواني الدائم فأرسلته، وإذا بي أستلم منه بعد أسابيع كتابين عليهما إهداء خاص بتوقيعه، "النقد الحضاري لواقع المجتمع العربي المعاصر" و"صور الماضي: سيرة ذاتية"، انكببت عليهما كطالبة مجتهدة قرأتهما، بل قل قمت بدراستهما وتلخيص أفكارهما واستلهام القضايا الإشكالية التي تطرق إليها في المشروع النهضوي العربي، وما تناوله بشأن العلاقة الوطيدة بين الممارسة والفكر كي يحدث التغيير الاجتماعي والسياسي هذا التغيير الذي كما اعتقد لن يحدث دون نضوج الرؤية والهدف من داخل المجتمع ذاته، هكذا أصر على أن مسالة النقد الحضاري تشكل شرط أساسي لعملية التغيير نحو الحداثة بل هي الخطوة الأولى لأي حركة اجتماعية ترمي إلى استئصال الأبوية في مجتمعنا.  

 

بعد سنوات كتبت مقالا بعنوان "أزمنة فلسطين هي أزمنة هشام شرابي" حول كتابه "الجمر والرماد"، جاء في افتتاحيته: أقرأ هذا الكتاب في الأيام التي نعيش فيها زمن الانتفاضة الفلسطينية المتأججة؟ أهي مصادفة أن أعيد قراءة جزء من تاريخنا الذي مررنا عليه مرور الكرام لسبب ربما يكون خارج إرادتنا أو بإرادتنا وتجاهُلنا لما حدث ويحدث؟ أهي مصادفة أن تتم القراءة دوماً من نافذة الماضي الذي طالما يفلت منا لنرتفع بعده بحدود الحقيقة، بعيداً عن الوهم؟‍‍

 

مضيفة، الجمر عند شرابي هو الوعي المتأصل في قدرته على استعياب أبعاد قضيته الشخصية والوطنية كمتلازمتين، وقدرته الفائقة على تمثل الوعي المتحضر لمعنى "الوطنية" والوطن الضائع، في سرديته إلى أبعد وأقدم رؤيا للوطن من خلال نافذة الطائرة، يشهد أول مراحل الاغتصاب على أيدي الصهاينة على مرئى من العالم، كما يحدث دوماً حتى اللحظة، وفي الشارع الواقع خلف جامع حسن بك، انتشرت الجثث على الأرض وفوق المئذنة إلي جانب علم الاستسلام الأبيض الذي رفعه العرب، يرفرف على الدولة اليهودية، قال: "أتذكر بحر يافا جيداً، انه بحر طفولتي، أشم رائحته في هذه اللحظة، وأتذوق طعمه المالح، أحس بهوائه على وجهي، كان لونه بالفعل مائلاً إلى الاخضرار عندما يكون هادئاً" واستطرد؛ كلما صعدت إلى أنفي رائحة روث الخيل الحلوة تعود ألي ذكرى المنشية وصورها، أما الآن فقد اقتلعت جذورنا، وفقدنا الأرض التي تنغرز في حياتنا.  

  

تتعاظم مأساة اغتصاب الوطن وتمتدُ عند شرابي حتى لحظات العمر المتأخرة فيتذكر:"أما بيت جدي فما يزال قائماً وتسكنه عائلة يهودية، اختفت الأشجار من حوله وأغلقت نوافذه بالحجارة من جهة الشارع، وظهر لي كما تظهر الأشياء في الأحلام، معهودة، لكنها غريبة آتية من عالم آخر. ولا يزال الجامع المجاور، الذي أخذتُ فيه أول دروسي القرآنية، قائماً كما هو إلا الشيخ قد غادره وأمسى مهجوراً. لقد حرم على من تبقي من السكان العرب السكن في المدينة الجديدة (خارج السور) وأجبروا على الإقامة في المدينة القديمة (داخل السور) التي أصبحت بالنسبة لليهود قصبة يزورها السواح الأجانب ليشتروا منها الحاجيات المصنوعة محلياً ويتفرجوا على سكان إسرائيل العرب.

 

النبش في الآلام الكامنة، يعيدنا إلى فلسطين الحبيبة، قضية العصر الأولى، القضية التي ضاعت في زمن التفسخ والخيانات بالتطبيع مع كيان العدو الصهيوني؛ ختمت مقالتي التي حررت في 2000: هناك ثمة شباب بلا عدد يحملون كل يوم أرواحهم على أكفهم، ثمة من يودعون الأمهات ويمضون لساحات المواجهة في كل درب، بعيد كان أم قريب، لصوت الحق الفلسطيني لأجل فلسطين قضيتنا الكبرى.

 

رحم الله الفلسطيني العروبي هشام شرابي الذي توفي ببيروت في 13 يناير 2005 وترك لنا إرثا من الفكر والنقد الحضاري لمجتمعاتنا العربية، ترك لنا كما غيره جمرة لا تخمد في قلوبنا جمرة اسمها فلسطين.  

 

المنامة – 16 يناير 2021


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق