منى عباس فضل
"العقاب" رواية للكاتب المغربي "الطاهر بنجلون"
الذي يسرد فيها حكاية أربعة وتسعين طالباً كان هو
من بينهم، سجنوا مدة تسعة عشر شهراً، أبان حكم الملك الحسن الثاني، عقاباً لهم على
تنظيم مظاهرات سلمية في شوارع الدار البيضاء في مارس عام 1965، وذلك احتجاجاً على
أوضاع التعليم في المغرب.
يقول بنجلون: "بعد التظاهرة تعرضت إلى
عنف دموي، واعتقالي إلى جانب مجموعة من الطلبة، بحكم انتمائنا إلى الاتحاد الوطني
لطلبة المغرب، وقد جرى الاعتقال بدعوى إنني العقل المدبر لتلك المظاهرات
السلمية".
التجربة القاسية التي مر بها بنجلون والطلبة
ارتبطت بظرف تاريخي، رافقها التعذيب والإذلال والمعاناة؛ فقد وجد الطلبة أنفسهم
مسجونين في ثكنات عسكرية بحجة تأدية الخدمة العسكرية، ومما زاد من مأساتهم أنهم كانوا
تحت إمرة ضباط تابعين "للجنرال محمد أوفقير" الذي كان وقتها اليد اليمنى
للملك في قمع أي حراك معارض فقد كان نموذجاً للتفنن في القمع والتعذيب وبث الرعب، وهو
مع الضباط أنفسهم الذين قاموا بالمحاولة الانقلابية الفاشلة على النظام المغربي
المعروفة "بانقلاب الصخيرات العسكري" وتصفية الملك.
الاعتقال التأديبي
في الاعتقال التأديبي، قيل لهم بأنهم -أي
الضباط- مكلَّفين بـ"إعادة تربيتهم" وذلك بإخضاعهم للخدمة العسكرية
الإلزامية عمداً. والتأديب بهذا المنطق الغرائبي له دلالة معنوية يتسع مداها
ومفعولها لتأديب الشعوب، فهو يعني فرض العقاب وروح الانضباط وقتل الجرأة والأفكار
الثورية والتحررية.
في حقيقة الأمر كان اعتقالا سياسياً بغطاء
الخدمة العسكرية، إنه نوع من أنواع التفنن في ابتكار وسائل القمع وانتهاك حقوق
الإنسان. لقد اتبعت السلطة أسلوباً متعمداً يخلق حالة من الالتباس بشأن
"احتجاز/اعتقال" الشباب المتظاهرين. ففي "ثكنة الحاجب" كانوا
يسومونهم مختلف أشكال التعذيب والإهانة والمس بالكرامة وسوء المعاملة، بدءاً من
شفرة حلاقة الرأس المثلومة التي تسيل دم كل رأس تطاله، إلى عبث أحد قادة المعسكر
الذي طلب منهم ذات مرة بناء جدار ثم هدمه، إلى دفعهم لقيادة مناورات بالرصاص الحي الذي
تسقط فيه ضحايا ويخلف جرحى، الأمر الذي شكل خطراً على حياتهم، ومع تلك الممارسات كانوا
على عتبات الموت، كل ذلك حدث بذرائع عبثية، كان يمكن أن يتم تصفيتهم في أي حرب مع "الجزائر"
أو زجهم من حيث لا يعلمون في المحاولة الإنقلابية الفاشلة التي تمت.
البوح بعد 50 سنة
احتفظ الطاهر بنجلون بآلام تجربة الاعتقال
وتفاصيلها ولم يفتح صندوقها للبوح والتدوين إلا بعد مرور نصف قرن، نفث من خلال
السرد حزنه وألمه النفسي على الرغم من كتابته السابقة لرواية "تلك العتمة
الباهرة" عن سجن تازمامارت والتي تتكامل مع "العقاب" وتعد هي
الأخرى رائعة من روائع أدب السجون.
في رواية "العقاب" يروي الكاتب تفاصيل
الاحتجاز عندما كان فى عمر العشرين، مما لاشك فيه أن هذه التجربة أغنت حالة الوعي
عنده مع اختمار مواهبه وصقل قدراته حتى شكلت منه كاتباً مبدعاً. جاء السرد فيها بصيغة
الحاضر وبأسلوب واقعي يجسد تفاصيل الأشياء والمواقف التي حدثت في وقتها، حين سئل ذات
مرة عن سبب التأخير في كتابة هذه التجربة رد قائلا:
من هنا ثمة ما يحيلنا إلى طرح أسئلة متعددة
تدور في مخيلتنا حول ما يستوجب أن يسرده المناضلون من تجاربهم أثناء الاعتقال، وكيف
يسرد، هل هناك منهجية معيارية محددة يفترض اتباعها؟ هل هناك ضرورة للتركيز على البعد
السياسي منها أم السياسي والإنساني معاً؟ لحظات القوة والصمود، الضعف والانهيار، الصور
المتعددة للانتهاكات والألم، هل نكتب واقع التجربة كما حدثت تماما؟..إلخ.
واقع وذاكرة وخيال
في هذا الصدد نستحضر قول الشاعر والروائي
الفرنسي جان جينيه "وراء كل كتابة جيدة ثمة مأساة كبرى"، فالمعاناة كما
يرى بنجلون ضرورية ليكون ثمة شاعر أو كاتب مبدع ومهم؛ مضيفاً: "إن أي كاتب
يحتاج إلى واقع وذاكرة وخيال، وإذا نحن حكينا الواقع من دون خيال فسيبدو كلاما
بسيطاً ومباشراً، وعبارة عن تقرير بوليسي ليس إلا. لكن، عندما تأخذ واقعاً يومياً
وتدمجه في لعبة الخيال يمكن أن تمس القارئ مباشرة وأن تثيره أكثر مما يثيره الواقع".
إن عملية السرد من وجهة نظره: "لها قدرة على معرفة روح الشعوب، وإذا أنت أردت
أن تتعرف إلى روح المجتمع المصري ما عليك إلا أن تقرأ نجيب محفوظ، وإن أردت أن
تقوم بزيارة إلى كولومبيا، أمكن لك أن تجعل من روايات غابرييل غارسيا ماركيز أفضل
دليل سياحي. صحيح أن الكاتب شاهد على الواقع، غير أن خياله هو الذي يمنح هذه
الشهادة صدقها الإنساني وعمقها الفني. إن حياتنا محكومة بالنقص دائماً، والخيال هو
من يملأ تلك الفراغات".
كما لم يفت بنجلون التأكيد على أن "ذاكرتنا
لا تسعفنا في استعادة كل شيء، فلا بد من خيال لاسترجاع ما يضيع وينفلت منا بفعل
الزمن. إن للخيال قدرة على تجاوز هذا الواقع الناقص، لنصير أحيانا أمام عالم فوق
واقعي، أو سوريالي، وعليه؛
لا بد من خيال لاسترجاع ما يضيع وينفلت منا
بفعل الزمن. إن للخيال قدرة على تجاوز هذا الواقع الناقص، لنصير أحياناً أمام عالم
فوق واقعي"، ويوضح "إننا نحن المغاربة، مثلا، لنا خيال ثري ونمتلك قدرة
خارقة وفائقة على تأويل الأشياء. فإذا ما وقع حدث معين تجد كل واحد منا يقدم
روايته الخاصة، ويضفي عليها مسحة من الغرائبية، ويضيف إلى الحدث تفاصيل كثيرة لا
منتهى لها".
الخلاصة، تبقى تجارب الاعتقال بغيضة لأنها تجسد ذكرى المظالم والكراهية والقمع الفاحش، هي شاهد
على انتهاك حقوق الإنسان وكرامته. ورواية "العقاب" التي لا تشعر معها بأي
مبالغة في سرديات تفاصيلها، تمثل مادة توثيقية تضاف إلى وثائق تضمنت تجارب
الاعتقال اللإنساني العبثي الذي تقوم به كل الأنظمة السلطوية والدكتاتورية، كما
إنها تدين جميع الممارسات القمعية التي تقوم بها المؤسسات الأمنية ورموزها التابعة
لهذه الأنظمة.
منى عباس فضل
المنامة - 10 أغسطس 2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق