الثلاثاء، 23 يوليو 2019

عندما يروننا..When They See Us



منى عباس فضل
مؤخراً شاهدت فيلم "When They See Us" على شاسة "نيتفليكس Netflix" حيث لم يتبادر لذهني حينها تقييمه تقنياً موسيقاً، تمثيلاً، إنما كان جل تفكيري قد انحصر على سردية الحكاية ومعاناة الأطفال وأهاليهم وصلة الحكاية الوثيقة بتاريخ الولايات المتحدة المتأسس على خطايا تتمثل في استعباد السود والإبادة الجماعية للأمريكيين الأصليين فضلاً عن خطابات الكراهية المضمرة والمكشوفة في المجتمع؛ لم لا والرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" ما فتىء يدعو في نهج عنصري وخطاب بلطجي إلى تقليص الحقوق المدنية والإنسانية للملونين والمهاجرين اللاتينيين والمسلمين والجماعات المهمشة من أعراق مختلفة، كان آخرها دعوته لأربع نساء ملونات عضوات في الكونغرس "بالعودة إلى وطنهن الأصلي".

هذه النبرة ليست خافية على أحد، وهي تعبير فاقع عن المواقف العنصرية البشعة التي رصدتها وحللتها دراسات عديدة خلصت في نتائجها إلى إنه ومنذ بدء الحملات الانتخابية لترامب ارتفعت معدلات جرائم الكراهية بنسبة "226%" حيث أطلق خطابه العنان للكراهية والعنف السياسي القاتل.  

أحداث فيلم "عندما يروننا" تتسم بحالة صعبة وخطيرة مكثفة من الحزن والكآبة القابضة للنفوس المثيرة لمشاعر الغضب والاستفزاز والإحباط وخيبات الأمل تجاه الظلم والتهميش والقمع الذي يمارس بكافة صوره وأشكاله. الفيلم لم يُخفِ نواقص المجتمع الأمريكي وأظهرعيوب نظامه القضائي في فترة زمنية امتدت لـ"25 سنة"، كما تناول نماذج إعلامية وسياسية لم يتورع عن كشف حقيقة وجهها القبيح والتقليب في ماضيها "كاستحضار ترامب" رجل الأعمال عام 1989 في أحد المشاهد وقد نشر إعلاناً في إحدى الصحف كلفته "8000 آلاف دولار" يطالب بإعادة تطبيق عقوبة الإعدام مجدداً وبأخذ الحق من هؤلاء المجرمين، برر ذلك بإنه لإخافة المجرمين من كل الأعمار، كما ظهر في مقابلة مع الإعلامي "لاري كينغ"من سي إن إن قال فيها "إن المشكلة في مجتمعنا هي أنّ الضحية ليس لديه أية حقوق والمجرم لديه حقوق لا تصدق". إن هذا المشهد وتلك التصريحات أضفت المزيد من المصداقية لأبعاد وخطورة ما يحدث في الحاضر ليس في المجتمع الأمريكي وإنما في مجتمعاتنا المحلية التي تتسم بانشطاراتها الطائفية والمذهبية التي تتغذى على دعم ومباركة من الاستبداد، وعليه فالفيلم يعد بحق عملاً جريئاً وفاضحاً للمستور والنفاق والكذب.   


حكاية الفيلم من القوة التي تستحضر الألم والإستياء، وهي مأخوذة عن قصة حقيقية حدثت في ثمانينات القرن الماضي وبما عرف بـ"قضية عدّاءة سنترال بارك في نيويورك"، لكنها -أي القضية- لا تزال موضع سجال ساخن في المجتمع الأمريكي حالياً. تدور الأحداث في وقت كان فيه المجتمع يموج بحالة من الرفض والنبذ غير المباشر لذوي البشرة السمراء، ذلك على الرغم من الاعتراف بحقوقهم المدنية والقضائية والسياسية.



أطفال في غرف الاستجواب
في ليلة التاسع عشر من شهر أبريل عام 1989، تعرضت شابة مصرفية تدعى تيشا ميلي“Trisha Meili” ؛ للاعتداء والاغتصاب في الحديقة المركزية بمدينة منهاتن في نيويرك حيث تركت تنزف في حالة مأساوية. في ليلة الهجوم قبضت الشرطة على كل من وقعت يدها عليه من المراهقين الذين أحدثوا صخباً بالحديقة؛ ومنهم خمسة أحداث "أنترون كراي، يوسف سلام، كوري وايز، وريمون سانتانا، وكيفن ريتشاردسون" أعمارهم تحت السن القانوني ما عدا واحد منهم -أي تتراوح بين "14-16" سنة- أي أطفال-، أربعة منهم أمريكيون من أصل أفريقي وواحد من أصل إسباني، وفي الواقع جميعهم لم يرتكبوا أي جرم على الإطلاق.

   


أخذوا الأطفال الخمسة للاستجواب لتواجدهم في نفس الوقت بالحديقة، وتحت وطأة الاستجواب القاسي يتسمر المشاهد أمام الشاشة في حال حيرة وتوجس إزاء ما يتعرضون إليه من رهبة وخوف وبكاء بحُرقة جراء التهديد والوعيد والضرب والتجويع والمخالفات التي ارتكبت بحقهم وحق أهاليهم خلال عدة أيام، وهذا رد فعل طبيعي ومنطقي لجسامة الفعل الذي ظهرت فيه نزعة الكراهية والنبذ كونهم ملونين وأصولهم من أعراق مختلفة حيث حكمت الأهواء الشخصية سير التحقيق وتلفيق التهم في ظل غياب الأدلة وتزييفها وفشل البوليس في الوصول إلى القاتل الحقيقي.



فساد الشرطة والقضاء
وضع الأطفال في غرف الاستجواب مع المحققين وبعضهم دون وجود ذويهم، فاستفردوا بهم وأجبروهم على الاعتراف والتوقيع على إذنات بأنهم إرتكبوا الجريمة"، ذكر فيما بعد الشاب "يوسف سلام" أحد المتهمين الخمسة بأنه اعترف بارتكابه للجريمة كذباً بالإكراه، وذلك بعد تعرضه لسوء المعاملة من قبل الشرطة أثناء فترة احتجازه. في أثناء المحاكمة، تجاهل الادعاء العام الأدلة التي تشير إلى وجود مرتكب واحد فقط للجريمة بدلالة حمضه النووي كما أثبت التحليل أنه لم يكن يطابق أيّاً من حمض الأطفال المشتبه بهم. عوضاً عن ذلك تم إدانتهم في عام 1990 بقانون تعسفي من قبل هيئة محلفين في محاكمتين منفصلتين استناداً كما أشرنا إلى اعترافات قسرية ومخالفة للحقيقة، كان عقابهم كابوس سنوات سجن تراوحت بين "5-15 سنة" وسلبهم حريتهم وكرامتهم، وقد تناولت وسائل الإعلام والصحافة الحدث على نطاق واسع.




ظهر الحق واستمر الباطل
مع أحداث 11سبتمبر وتحديداً في عام  2002 التي برزت في أحد المشاهد اعترف المجرم الحقيقي المسجون على ذمة جرائم اغتصاب عديدة وسابقة عن مسؤوليته بجريمة "عدّاءة سنترال بارك" وهذا أكّدته ثبوت فحوصات الـ"الحمض النووي DNA" سابقاً، إثرها تم تبرئة الأطفال الذي أصبحوا رجال بعد 13 عاما أدينوا خطأ ونالوا فيها العذاب والاغتصاب والفساد داخل السجن السيء الصيت، كما برعت مخرجة الفيلم في إبراز حقيقة وضع السجون التي تمتلئ بالمجرمين وبفساد رجال الشرطة والمسؤولين، سارع الأطفال-الرجال-الأبرياء إلى رفع دعاوى قضائيّة ضد ولاية "نيويورك" في عام 2003، بدعوى محاكمتهم محاكمة كيدية اتسمت بالتمييز العنصري ضدهم وسببت لهم أزمات نفسية وندوب لا تشفى.


أغلقت القضية في 2014 مقابل غرامة مالية قدرها "41 مليون دولار، بيد إن ترامب وفي نفس العام وصف التسوية "بالفضيحة" قائلاً: "إنه لازال من المحتمل أن تكون مجموعة الخمسة هي الفاعلة..وإن التسوية لا تعني البراءة..فهؤلاء الشباب لا يملكون ماضي يشبه تماما ماضي الملائكة"، كما أطلق في 2016 أثناء حملته الرئاسية حسب التقارير خطاباً ذكر فيه بأنّ الرجال الخمسة ممن اتهموا في قضية "عدّاءة الحديقة المركزية" كانوا مذنبين، وأنه ما كان ينبغي إخلاء سبيلهم أبداً، الأمر الذي دفعهم مع غيرهم من المدافعين عنهم إلى انتقاده بشدة، كذلك يشار وقتها إلى تراجع السناتور الجمهوري "جون مكين" عن تأييده مشيراً إلى "تصريحاته الفاحشة  حول الرجال الأبرياء قي قضية عدّاءة الحديقة المركزية". ترامب لم يتوانى عن الذكر في خطاباته بأن المهاجرين المكسيكيين ممن لا يحملون أوراقاً ثبوتية هم مجرمون أو مغتصبون أو أشخاص يجلبون المخدرات، وانتقد قاضٍ مكسيكي أميركيّ بأنه متحيز في قراراته بسبب تراثه المكسيكي كما نشر إحصائيات مزيفة على التويتر تدّعي بأن الأمريكيين السّود من أصل أفريقي وإسباني مسؤولون عن غالبية عمليّات قتل البيض والجرائم العنيفة. 

ختاماً مخرجة الفيلم "Ava DuVernay إيفا دوفيرناي" تشير إلى أن أكثر من "23 مليون" حساب في نتفليكس Netflix في جميع أنحاء العالم قد شاهدوا الفيلم منذ عرضه لأول مرة في 31 مايو الماضي. الفيلم رسالة ذات مغزى سياسي واضح للزمن الحاضر برغم إن أحداثه تعود إلى 1989، والمخرجة دون شك نجحت في ملامسة عنصرية المجتمع الأمريكي على حقيقتها عبر إطلاق العنان للمشاعر الفردية المكبوتة ولخطابات السلطة التي تشجع على الكراهية والعنف وتمجده، فهي لم تكتفى بأداء استاتيكي إنما جاءت الأحداث والمشاهد فاضحة وكاشفة لأشكال العنف الفتاكة المنتشرة بسبب خطابات الكراهية والقمع والفقر والتمييز وفساد مؤسسات السجون وأجهزة الشرطة والقضاء وكل ما يضمر في النفوس من أحقاد، كانت بارعة في التعبير عن سوء استخدام القسوة والقوة لتعويض مشاعر العجز الدفينة التي يعاني منها العنصريون والنظام العام.    

منى عباس فضل
المنامة –23 يوليو 2019

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق