الخميس، 26 يوليو 2018

محطات مع عزيزة البسام


منى عباس فضل [1]
تدور من مخزون ذاكرتي مع عزيزة ثلاث محطات، تعبر فيها هذه الإنسانة عن نموذج لنساء ساهمن في صناعة تاريخ أوطانهن من خلال أدوراهن الرائدة التي تناولتها حكايات السرد وتفاصيله في نكران الذات، بل وفي أدق الأمور الصغيرة والرائعة التي تميزن بها في حياتهن ونشاطهن.  

المحطة الأولى
عندما كنا يافعين في مقاعد الدراسة بجامعة الكويت، كنت طالبة للتو في سنتي الأولى وكانت تسبقني على ما أظن بسنتين أو ثلاث سنوات دراسية، تخصصها الدراسي غير تخصصي؛ كنت التقيها صدفة في ردهات وممرات الكلية أو في الكافتيريا، الابتسامة العذبة تعلو محياها ومن بعيد لبعيد كنت معجبة بها، بشكلها وهيئتها العامة من قصة شعر أو لباس أو هدوء يوحي لك من الوهلة الأولى بشئ من التحرر، التمرد، البساطة، الأناقة وأشياء صغيرة أخرى تستفزك وتشعرك بالراحة والإنجذاب في آن.

من بعيد لبعيد كنت أنظر إليها وأرقبها حتى جاءت الفرصة طبيعية ومؤاتية للتعرف عليها خارج إطار النشاط الطلابي أو الدراسي، وكما يقولون الكيمياء هي التي تفاعلت بيننا، وعبر ابتسامة تعارفنا وجلسنا لحظتها في ركن هادئ أمام إحدى طاولات كافتيريا كلية الآداب للبنات بكيفان، واكتشفت من أول لقاء بيننا ودون تدخل أي وسطاء بأن ما يجمعني بهذه الإنسانة الرقيقة والشفافة هو المخزن في ثنايا الكتب، هي المعرفة التي احتلت مركزاً كبيراً ممتداً في عقلها واهتماماتها ونشاطها إضافة إلى أشياء أخرى جميلة لا تحصى في دواخلنا.

توالت لقاءاتنا أوقات الفراغ بين المحاضرات وفي مكتبات الجامعة وكلياتها التي كنا نتنقل بينها كالفراشات، وكذلك وسط الحشد الطلابي الكبير المفعم بالنشاط والحيوية آنذاك في جامعة الكويت التي كانت تمر بعصرها الذهبي كمنارة للعلم والفكر، وغالباً ما كانت تلك اللقاءات مميزة بعفويتها وتلقائتها وغنية بذخيرة المعرفة والنقاشات التي تدور حول كتاب ما أو رواية أو مقال قرأناه، نتناول فيها الآراء ووجهات النظر، تنصت لي بهدوء وتأمل، واستمع إليها مبهورة وسط الصخب والضوضاء من حولنا، ولا أتذكر أبداً بأننا تحاورنا أو تبادلنا الحديث حول شؤوننا الخاصة، سوى أن ذات مرة دار الحديث عميقاً عن فهمنا ومن خلال تجاربنا لعلاقة الحب، وكان منطلق الحديث مرتكزاً على ما كتبته وروجته الكاتبة والروائية المصرية نوال السعداوي من أفكار، وما يتداول من سير لمناضلات عالميات مثل ناديا كروبسكايا والكسندر كولنتاي وروزا لكسمبورغ وغيرهن كثيرات، في هذه الأحاديث كنا ننطلق في الحوار بمستويات تتجاوز التأبو، تنبش وتحفر وتقلب في كل ما هو ممنوع  رغبة منا في اكتشاف واختبار الأفكار المتداولة في شأن تحرر المرأة وعلاقتها بالرجل ودورها في المجتمع وبالمساواة..الخ.

***
 المحطة الثانية
 تمثلت في معرفتي بها تماما كما "غيري" من خلال النشاط النسائي في جمعية نهضة فتاة البحرين، هنا حيث عملت عزيزة ومن أسس قناعاتها الراسخة بقوة بأن تحرر المرأة يبدأ من درب تحررها الاقتصادي وعبر دورها ونضالها من أجل الحقوق والمكتسبات التي تضعها على قدم المساواة مع الرجل، عملت في الجمعية "وظيفة ونشاطاً تطوعياً"، وكان لنا معها تجربة مميزة خصوصاً في سنوات القحط التي سادت فيها المحرمات وكثرت الممنوعات في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، فلا كتب نوعية متاحة، ولا صحافة حرة ولا أي مصدر من مصادر المعرفة الجادة سوى تلك التي تدور في فلك الخطاب الرسمي، فكان حرصها وتركيزها على النشاط النسائي آنذاك أحد الرافعات التي ساهمت في انتشال النشاط الوطني عامة مما أصابه من ضربات قاصمة للظهر، كان لها دوراً كبيراً وعميقاً في التركيز على القضايا الحقوقية للمرأة من منطلق النشاط الوطني ومن إيمان راسخ بأن للمرأة البحرينية دوراً في عملية التغيير والتنمية المجتمعية.

ساهمت عزيزة في إغناء تجربتنا معها بما كانت تجود به من ثمرة معارف وخلاصة تجارب تتحصل عليها من إطلاعها الغزير وأسفارها وانفتاحها على النشاط في مجال حقوق المرأة والإنسان بالخارج، فكانت من أوال البحرينيات والخليجيات اللاتي تركز اهتمامهن على مخرجات مؤتمر "بيجن الأول" بالصين والذي انطلقت منه الدعوات للعديد من الاتفاقيات الدولية التي جاءت لصالح المرأة وأبرزها "اتفاقية السيداو" وغيرها، كانت في فترة ما نافذتنا على هذه العوالم، كما حرصت في نطاق النشاط الجمعي في الجمعية بالتركيز على محاربة "الأمية المعرفية" من خلال قراءة الكتب المميزة وتلخيصها وتداولها بالإضافة إلى المقالات المتنوعة الهادفة ومناقشة مضامينها في جلسات اسبوعية منتظمة...هي هي عزيزة ذاتها التي لا تزال برقتها وبساطتها وعذوبة ابتسامتها وغزارة معرفتها وصندوق أسرارها وكتابها. 

***
المحطة الثالثة
أخذتنا الحياة الأسرية والمهنية في غمارها شرقاً وغرباً، ابتعدنا لفترة ما عن نشاط الجمعية، وعزيزة مع رفيقات أخريات حملن الهم والمسؤولية على أكتافهن بإخلاص وتفانٍ في الجمعية، حتى كان ذاك المنعطف في تسعينيات القرن الماضي الذي وقفنا فيه بأسئ معها في هذه القاعة نناشد الضمائر ونستصرخ موقفاً حراً تجاه ما كان يحدث في الشارع من انتهاكات لأبناء الوطن، كان موقفها وطنياً مشهوداً وتاريخياً قدمت فيه تضحيتها تجاه الوطن، وكان اصرارها على الموقف يعني الكثير في معنى المقاومة وفي جوهر الإنسان، فقد ايقظ البعض من حالة السبات والخمول التي سادت آنذاك بسبب الحصار والتشرذم وكتم أصوات الحرية وانتشار بلاء الفساد والظلم، هذه الإنسانة لم ترضخ لمغريات أو تهديدات وقادت بهدوء مسؤول موقفاً وطنياً مشرفاً شكل منارة في عقولنا ونفوسنا حتى اللحظة.

وفي خط موازاً في ذاك الزمن كانت تثار حوارات عميقة حول قضايا اجتماعية تمس كرامة المرأة البحرينية وحقوقها وتحررها، أتذكر حينها أن وقع في يدي كتاب حول "زواج المتعة" للدكتورة الإيرانية شهلاء حائري، تناقشنا مع بعضنا البعض حوله بإنشداد وشغف كمن يكتشف كنزاً، وتبادلنا أطراف الحديث المكتوم حول ممارسة أو عدم ممارسة هذه الظاهرة في مجتعنا المحلي، كيف ولماذا؟ وتحاورنا عن إمكانية تنفيذ دراسة مسحية محلية حولها، واتفقنا وانطلقنا كل من طريق يتلمس مصادر حية للمعلومات تساعدنا في إنجاز دراسة علمية في هذا المضمار، اتذكر أننا بدأنا البحث عن هذه المصادر وكانت البشارة خيراً، لكن ظروفها الصحية أوقفت ما كان في البال، وكان الفقد لحظة مؤلمة وحزينة لكل من عرف عزيزة.

المنامة – 26 يوليو 2018






[1]  مداخلة ألقيت في جمعية نهضة فتاة البحرين يوم الثلاثاء الموفق 24 يوليو 2018، وذلك تخليداً لذكرى مرور 21 عاماً على رحيل الرفيقة عزيزة البسام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق