التزاماً بواجب "التعقّل"، وإعادة ترتيب الأفكار، وتحطيم التصوّرات والتخيّلات، وبالقدر نفسه تفكيك النمطيّات والروايات التافهة والمكرّرة، يعيد "جورج قرم" في كتابه "المسألة الشرقية الجديدة؛ دار الفاربي: بيروت ط 2021"، مناقشة قضية الشرق ويتعمق في تفكيكها بمنهج تحليلي استراتيجي-جيوبوليتيكي ويقاربها من كونها موضوعاً حياً مؤلماً لايزال يتجسد في مشهد الصراع الغربي-الشرقي الذي انطلق منذ صراع البلدان الأوروبية "الغرب" والعثمانيين "الشرق" في أوائل القرن التاسع عشر؛ وعبر الحملات الاستعمارية وما آلت إليه بسقوط الإمبراطورية العثمانية.
أما عن دافعه في العودة إلى الكتابة، فهو لإحساسه بالخطر، وبأهمية مواصلة جهوده في التحليل وترتيب الأمور فكرياً ولغوياً، لاسيما وإن إحياء نكبات العالم العربي قد حدثت بفعل متغيرات طرفية واستراتيجية جديدة كما يشير؛ وارتكازاً على رؤيته كخبير سياسي في العلاقات الدولية والاستراتيجية والتاريخية؛ اتبع منهجية التحليل القائم على العوامل المتعددة وارتباطها بأسباب موضوعية وذاتية مختلفة على الرغم من تركيزه على تأثير العناصر الموضوعية في علاقة الشرق بالغرب وما تتسم به من حالة صراعية حيث يٌذكر بأنه "لابد أن نكون واعين بأن القوّة أو التأثير في العوامل الداخلية ترتبط بشكل واسع بما تحظى به من دعم بفضل التدخلات الخارجية"، مضيفاً بأن هذه العلاقة قد تحولت راهناً إلى صراع عربي-عربي، سيؤدي بالمنطقة نحو المزيد من العنف والإرهاب، بل والفوضى المطلقة وإلى تناقضات في السياسات المتبّعة والهذيان المتفاقم، مؤكداً "بأن كل تحليل لا يأخذ في اعتباره التعقيد الناجم عن تفاعل العوامل الداخلية بالخارجية فهو يبسّط مسائل هذه المنطقة التي تمر اليوم في انهيار عنيف".
في ثمانية فصول من كتابه يرصد قرم الصراعات العربية وتطوّرها عبر الكيفية التي تنظر فيها الجماعات الفكرية الغربية إلى عالمنا العربي وتركز عليه بنمطية أحادية خاضعة إلى تأثير السرديات الدينية وثقل الصراع التاريخي بين الشرق والغرب لاسيما مع سياقات تأثير الحرب الباردة التي أعادت رسم "المسألة الشرقية الجديدة" في بعدٌ ديني "مسيحي" عبرت عنه قضايا الصراعات المحلية، وكذلك ثورات الربيع العربي والتراجع التنموي.
خطاب العنصرية والازدراء
تناول المؤلف في الفصل الأول إرث الضغوطات التي
تثقل أطر تحليل العلاقات الدولية وتأثر الكبار اللاعبين المؤثرين في أحداثها
بذاكرات جمعية واجتماعية وانتماءات غالباً ما تسّوغ فيها تحليلاتهم؛ لأعمال العنف
والحروب وانتشار الجيوش والاحتلالات، وبتأثير من مفاهيم ومقولات غامضة تشكل قاموس
مفردات تلك التحليلات، لم لا والأنثروبولوجيا الدينية والسوسيولوجيا الكولونيالية
تبعاً لقرم لها تأثير جوهري على بث خطاب العنصرية والصراع والازدراء تجاه الآخر،
وبتأثير خبيث من وسائل الاعلام التي تبث صورة عن بلدان الشرق في الغرب.
"النمطيات القاتلة" شرّعت العنف
يحدد
قرم "النمطيات القاتلة" التي سّهلت وشرّعت، تصاعد أعمال العنف في العالم
العربي ويحللها في
سيرورة علاقة الغرب بالشرق خلال القرن الأخير، ودور "الكليشهات" في وصم
هذا العالم بمفاهيم "العنف والتطرف والإرهاب والفوبيا"، فضلاً عن تعزيز
نظريات المؤامرة المسوغة إلى شرعية التقسيم الجيواستراتيجي العمودي "شمال وجنوب"،
والتدخل في الشؤون الداخلية لدول الجنوب عبر تقسيم عاطفي بين "أخيار"
يساندون أمريكا والغرب و"أشرار" يمثلون دول معارضة ومنافسة تبعاً
للمصالح الجيوسياسية واستراتيجية سياسية معززة بالضغط الدولي لشيطنة "الدول
المارقة" أو "محور الشر" كما يحدث لإيران وسوريا وكوريا الشمالية؛
وتهميشها من خلال بسط الهيمنة الغربية على العالم، أما في المجال الديني؛ فيجد أن تسيس
الديانة بات يجتاح المساحة الجيوسياسية الكاملة للعالم التوحيدي، وإن النزاعات
الطائفية المتطرفة قد ازدهرت منذ التسعينيات.
في السياق ناقش الملابسات حول مفهوم الإرهاب واقترنه بالإسلام في العالم العربي، وازدواجيه التعاطي مع قضايا الأمن الدولي، حيث يدعم بعضهم ويجابهه البعض الآخر، وتحت شعارات "العهد الصليبي"، والتمييز بين وجود مفترض لجماعات إرهابية "معتدلة" يجب دعمها وجماعات "متطرفة" تجب مقاومتها؛ كما في الرغبة الجامحة لإسقاط النظام السوري، وحلل في الإطار موضوع "المثلث الشيعي" وتداوله كمصدر للإرهاب.
الإسلام السياسي وليد الاستعمار
يكمل
تحليله حول "ثقل الروايات الرسمية" التي يفككها في الفصل الثالث عبر
إثارة أسئلة افتتاحية؛ هل الإرهاب الإسلامي وليد الدكتاتوريات العلمانية العربية؟
هل الإسلام السياسي ردّ فعل ضد القمع في المرحلة التي أعقبت الاستعمار؟ هل بلوغ
الحداثة السياسية يجب أن يمرّ حتماً بالإسلام؟ هل الإسلام عنيف في جوهره؟ وهل يدعو
إلى التعامل الشائن مع الأقليات الدينية؟ وهل يستهدف الإرهابيون القيمَ الغربية؟
هنا لا يكتفي "جورج قرم" بالإجابة على تلك التساؤلات؛ وإنما يناقشها من جهة تأثير المحددات الدينية والتاريخية في تشكيل صورة الشرق في المخيلة الغربية، ودور الصيرورات السياسية والتاريخية التي تربط بين الإسلام والعنف والإرهاب وعلاقة ذلك بالدكتاتوريات العربية والعلمانية؛ فكل هذا وذاك برأيه يساهم في تشكيل ذهنية الغرب وصناعة رأيه العام وموقفه من "المسألة الشرقية"، ومنه يخلص إلى إن الإسلام لم يرتبط يوماً بالعنف والإرهاب أو معاداة الأقليات، وحتى حركات الإسلام السياسي التي برزت كانت وليد رد فعل على سنوات الاستعمار في الشرق، وبالتالي فما يحدث اليوم هو امتداد لرهانات وتصورات تاريخية، الأهم أن الغرب لعب دوراً أساسياً في تشكيل هذه الكيانات -أي الإسلام السياسي- ومحاربتها فيما بعد، منوهاً بأن مختلف التحليلات والدراسات المتعلقة بها والتي تروج لها مراكز الدراسات والأبحاث الأكاديمية ووسائل الإعلام؛ ما هي إلا دراسات استعمارية جديدة و"أبوية"، وهي اجترار لنظرية "صراع الحضارات" والرغبة في طمس "المسألة الشرقية" بشكل دائم.
تدخّلات خارجية بتواطؤ القادة العرب
يسلط
الضوء في الفصل الرابع حول "مكونات المسألة الشرقية القديمة"، ويبدأ
حديثه عن الجذور التاريخية والسياسية لتشكلها وهي تتعلق أساساً بالاضطرابات وأعمال
العنف التي تواجهها المنطقة، واستشعار الغرب بخطر التمدد الإسلامي عبر
"الإمبراطورية العثمانية" على مصالحه التوسعية والإمبريالية، ودلالته في
ذلك كيفية تناول نسق الإسلاموفوبياً في الغرب؛ الذي لا يتم إلا عبر العودة إلى
الجذور التاريخية للمسألة، وبقصد شرعنة الهيمنة وطمس الهوية الشرقية، ويعطي قرم
نموذجاً لذلك حين استخدمت منذ حملة نابوليون بونابارت وحتى اتفاقية سايكس بيكون
ومعاهدة سيفرس 1920 كأداة لإضعاف قوى الشرق من خلال بث الفرقة وتشكيل فسيفساء
دينية وعرقية" في العديد من البلدان العربية كـ(لبنان والعراق وسورية..)
وتحويل "الوطن القومي لليهود" إلى دولة يهودية "إسرائيل"
بوصاية وإشراف غربي.
وفي مقاربة تحليلية؛ يذكّرنا أنّ ما يحدث اليوم يشبه تطوّرات بلاد البلقان التي أثارتها تدخّلات القوى الأوروبية الكبرى وظهور مختلف أشكال الإرهاب التي انتشرت فيها آنذاك جراء الغليانات الوطنية، بحكم الأقليات غير التركية وغير المسلمة في الإمبراطورية العثمانية وأشعلت الحرب العالمية الأولي عام 1914 وانتهت إلى انهيار الإمبراطورية النمساوية-المجرية، والإمبراطورية العثمانية ومن نتائجها السيطرة التامة الفرنسية والبريطانية على المجتمعات العربية؛ في هذا، الفصل يستفيض حديثه عن القضية الفلسطينية، كونها همشت على الساحة الدولية إن بفعل الدعم المطلق الذي تلقاه الدولة الإسرائيلية في بناء مستعمراتها، وإن بأعمال العنف الفظيعة التي تهزّ المجتمعات العربية في المشرق، حيث تجدّدت التدخّلات الخارجية بكثافة وبتواطؤ العديد من القادة العرب.
التوظيف اللامسؤول للدين
يغوص
قرم في الفصل الخامس بـ"معطيات المسألة الشرقية الجديدة"، منذ إنهاء
الاستعمار، وتزايد تدخلات القوى الخارجية الغربية والاتحاد السوفياتي، واحتلال
فلسطين وبروز دولة لليهود، والتوظيف اللامسؤول للديانة الإسلامية ونشوء القاعدة،
مروراً بالحرب الباردة المخلة بالاستقرار، ومصادرة الثورة الإيرانية الشعبية
الإيرانية 1979 من قبل رجال الدين ونتائجها على العالم العربي، وحرب الخليج وغزو
العراق، واختطاف الربيع العربي في 2011، والتدخل الروسي في سورية، كل ذلك أفضى إلى
العنف المعمّم، الذي تلقى فيه الإسلام السياسي دعماً بطرق مختلفة وعبر سياسات
القوى الأوروبية والولايات المتحدة، بوصفه العلاج المضاد لانتشار النزعة المناهضة
للإمبريالية، وللحركة القومية العربية، فكل ذلك يكشف مجدداً عن مدى استمرار
التدخّلات الخارجية في شؤون المنطقة ونتائجها العبثية.
إباحة التدخل العسكري وتفكيك الدول
ويضيف
قرم هنا بإن الرهان لا يدور قط حول العيش المشترك الإسلامي-المسيحي، أو
الإسلامي-اليهودي وحسب، بل أيضا حول التعددية الدينية داخل العالم الإسلامي وبين
مختلف الجماعات الإسلامية، السنة كأكثرية ساحقة، والشيعة، وجماعات أخرى من
الإسلام، ويصل في هذا الفصل؛ "إلى إن بعض القوى الأوروبية وعلى رأسها فرنسا قد
أباحت لنفسها أن تتدخل عسكرياً، وتؤجّج النار سياسياً وعسكرياً، لم تفعل سوى
العودة إلى التقاليد الاستعمارية البغيضة؛ وبالأمس كانت تتذرّع بالدفاع عن
الأقليّات المضطهَدة، واليوم تتذرّع بحقوق الإنسان المحتقرة، وإن هذه القوى تعمل
اليوم على تفكيك الدول القائمة، بعد أن سلخت لواء الاسكندرون عام 1939 حيث تقع
مدينة أنطاكية مرجع المسيحية المشرقية الأعلى، لتقدمه إلى الأتراك، بعد أن مهّدت لاستعمار
فلسطين والقدس على يد الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل، مما تسبّب في إزالة
الفلسطينيين المسيحيين، والجماعات المسيحية في سورية مهدّدة بالاندثار، لأن قادة
أوروبيين مصابين بالعمى، لاسيما في فرنسا، لم يتردّدوا من مساندة التعصب الديني
لدى المجموعات الإسلامية المتطرفة، التي صادرت لمصلحتها المعارضة السورية".
اقتصاد الريع أصل المشاكل
وكاقتصادي
يدق "جورج قرم" في الفصل السابع ناقوس الخطر بشأن التراجع التنموي وما
تتخبط به أغلب البلدان العربية، على الرغم من امتلاكها ثروات طبيعية مهمة، إلا إن
مجتمعاتها تعيش وضعاً اجتماعياً وسياسياً وثقافياً كارثياً، مقارنة بدول أخرى
أثبتت وضعها الاقتصادي العالمي كدول جنوب شرق آسيا، أما أسباب ذلك التناقض المثير
فيكمن في تعميم اقتصادات بُنيت على الهدر الناجم عن الفساد والنموذج المدمر للنمو
والتنمية، وعلى اقتصاد الريع حتى في داخل المجتمعات التي لا تملك احتياطيات نفطية،
وهنا لا يكتفي بذلك؛ إنما يحاول فهم أسباب الإخفاقات المتكرّرة في محاولات
التصنيع، وفشل الإرياف، واستمرار بؤر واسعة من الأميّة، والبطالة بين حملة
الشهادات من الشباب والهجرة وتشكل شرائح واسعة تعاني من الفقر والتهميش الذي جعلهم
ضحية رخيصة للدعاية الدينية المتطرفة التي تموّلها التنظيمات الإرهابية وبعض الدول،
إضافة إلى تطبيق وصفات اقتصادية مالية نيوليبرالية لم تفعل سوى تأجيج الوضع
المتفجّر.
مضيفاً بأن التحولات في المجتمعات المحلية والنسيج السوسيو-اقتصادي العربي لم تواكبه دراسات علمية جادة -محلياً بالأساس- للوقوف عند مكامن خلل الخطط التنموية، والمعضلة تبعاً له لا تنحصر في ضعف الموارد المادية البشرية واللوجستية، وإنما في إدارتها وتدبيرها وقيادتها، في وقت تتنامى فيه حدة ظواهر الفساد واللاعدالة الاجتماعية وسوء توزيع الثروات والموارد المحلية في الاقتصاد الريعي التي شكلت أهم عناصر تفجر حركات الانتفاضات الشعبية عام 2011.
أطروحة "هانتينغتن" هذيان عرقي
يتصدى "قرم"
بحزم في كتابه لمفهوم "صراع الحضارات"، فيدحض منهجياً أطروحة
"هانتينغتن" ويندّد بوظائفها الإيديولوجية ويرى بأنها هذيان عرقي تجب
مقاومته من دون هوادة، وهي تكرار قديم لعنصرية القرن التاسع عشر الأوروبي العنيفة
التي قسمت العالم إلى كيانين خياليين: العرق النبيل والراقي، عرق الآريين، والعرق
المنحط، عرق الساميين ذوي العقل الثقيل، المتجسد اليوم في الإسلام. وإن تشجيع فكرة
حوار للحضارات والثقافات والأديان، إنما يدعم فكرة "هانتينغتن" من أن الحضارات
والثقافات والأديان، تشكل الأسباب الحقيقية للنزاعات، وليس طموح القادة السياسيين
واعوجاج ضمائرهم، إن هذه الأطروحة تستخدم في تشريع وعلى نحو مباشر وواع وغير مباشر
وغير واع، تشريع السياسات الهوجاء القائمة على تدخّلات الحلف الأطلسي، في شؤون
العالم العربي الداخلية، وخدمة مصالح اقتصادية غربية، كما إن اقترانها بظاهرة
الإرهاب شكل ذريعة للتدخل في المنطقة العربية وتحت مسميات متنوعة كاجتثاث التطرف
وزرع الديمقراطية، وإن ربط الحضارة بالصراعات الاجتماعية الثقافية والسياسية ما هو
إلا دليل على البعد الديني للمسألة، أكثر من البعد الاستراتيجي أو الاقتصادي.
المنامة – 20 مارس 2023